كل أزمات ومشكلات مصر التى استعصت على الحل خلال ما يقرب من أربعة عقود، سببها الرئيسى هو «تضارب المصالح».. إذ يكفى أن تكون هناك «مصلحة» خفية لأحد أطراف حلّ أى مشكلة حتى تتعقد أكثر وتتحول الحلول المقترحة إلى مشكلات جديدة تدفع كل الراغبين فى الحل الصحيح إلى اليأس المطبق والانصراف الكامل عن إعادة التفكير فى المشكلة أو الأزمة.
خذ عندك مثلاً، مشكلة التعليم الأساسى فى مصر، وامنحها قدراً من الجهد والوقت لفحص أسباب الانهيار الكامل لهذا التعليم وتحوله إلى مستنقع شديد الغباء، وإلى منبع أصيل لتخريب وجدان أجيال عديدة وتدمير مواهبهم، وقبل أن تسارع بتكوين إجابة أو رأى، اجتهد قليلاً فى معرفة كيف كان حال التعليم الأساسى فى مصر منذ ثلاثينات القرن الماضى وحتى منتصف السبعينات. والمؤكد -وطبقاً لعشرات الأدلة الموثقة فى عشرات السير الذاتية ومذكرات كبار المفكرين والعلماء وأساتذة الجامعات العظماء- أنك ستصاب بدهشة بالغة عندما تدرك أن التعليم فى مصر كان يضارع، وأحياناً يتفوق على، أعلى مناهج التعليم تطوراً وكفاءة فى أرقى الدول وأكثرها تقدماً. ولكى أوفر عليك عناء الجهد يكفى هنا أن أشير إلى ما كتبه عالم الجيولوجيا المصرى الراحل الدكتور رشدى سعيد عن أن كلية العلوم بجامعة القاهرة كانت فى الأربعينات من القرن الماضى تستقبل دارسى الماجستير من كل الدول الأوروبية، ومن اليابان وكندا وأمريكا، وكان الدارس من هؤلاء يتم امتحانه أولاً فى مقررات العلوم الأساسية التى يدرسها المصريون فى المرحلة الثانوية، وإذا تجاوزها يتم اعتماده فى مرحلة الماجستير.
ما الذى حدث إذن حتى يتحول التعليم الأساسى إلى مشكلة رهيبة استعصت على الحل كل هذه السنوات؟.. وكيف وصلنا إلى هذا التخريب المتعمد للعملية التعليمية برمتها فى مدارس الحكومة ومدارس التعاونيات والمدارس الخاصة أيضاً؟ المثير والمذهل أن هذا الإجرام الممنهج تزامن تماماً مع إنشاء صرح علمى ضخم هو «المركز القومى للبحوث التربوية» الذى أنشئ بقرار جمهورى عام 1972، ومنذ إنشائه وحتى الآن أنجز هذا المركز آلاف الدراسات المتخصصة -نظرياً وتطبيقياً- تتناول أدق تفاصيل العملية التعليمية فى مرحلة التعليم الأساسى من تطوير المناهج إلى تطوير طرق الامتحانات إلى الدور التربوى للمدارس ورفع كفاءة المدرسين والتنمية البشرية للإداريين، وتحسين جودة التعليم، وإتاحة التعليم الجيد لكل شرائح المجتمع، إلى كل ما يخطر على بال أكثر المفكرين كفاءة فى تطوير التعليم، حتى بحوث الأنشطة التربوية ورعاية الموهوبين تم تخصيص شعبة كاملة لها من بين الشعب الست التى يضمها هذا المركز العملاق الذى تخرّج منه وعمل فيه مئات التربويين العظام الذين قامت على أكتاف بعضهم نهضة التعليم الأساسى فى كل الدول العربية!.
البحوث إذن موجودة، والدراسات أصبحت تلالاً تخالطها الأتربة والحشرات على أرفف مكتبة المركز وفى مخازن تنشع فيها رطوبة الصرف الصحى المتهالك فى مبنى المركز الذى صدر له قرار جمهورى آخر عام 1989 لإضافة مهمة التنمية إلى دوره الأصلى، وليصبح اسمه: المركز القومى للبحوث التربوية والتنمية! والمضحك المبكى أن هذه الإضافة تزامنت مع انتشار التعليم الخاص فى مصر انتشاراً مخيفاً مثل وحش سرطانى يفرض شروطه الإجرامية على الطبقة المتوسطة -رمانة ميزان أى مجتمع- ويشفط كل مدخراتها، ثم يتوحش أكثر ويسرق منها أبسط ضرورات الحياة دون أن يقدم لها أى خدمة غير انتقال ملف التلميذ من سنة إلى أخرى، حتى يُدفع به إلى المرحلة الجامعية، لتبدأ رحلة أخرى للأسر المصرية مع نهب آخر منظم تمارسه الجامعات الخاصة مع الطلبة، حتى إذا تخرجوا من هذه المؤسسات الإجرامية تلقفتهم البطالة والإحباط وفقدان الانتماء، ومَن يعثر منهم على عمل يخضع لنهش آخر يمارسه القطاع الخاص دون رحمة مقابل أجر تافه يبقيه بالكاد على قيد الحياة!.
ومؤخراً، قادت شريحة من أمهات مصر حملة منظمة على مواقع التواصل الاجتماعى للاحتجاج على مناهج التعليم المرهقة والمخرّبة لعقول الأطفال، وكل مَن تابع هذه الحملة انتبه للمرة الألف إلى كوارث مخيفة لم نعد نعتبرها كوارث من كثرة الاعتياد، من بينها عدم وجود تعليم فى معظم المدارس الخاصة بسبب تدنى أجور المدرسين، واستنفاد طاقتهم فى الدروس الخصوصية، ومن بينها جريمة إلزام الأطفال بحمل كل الكتب والكراسات فى الحقائب دون أدنى التزام من المدارس بالاكتفاء بحمل كتب جدول الحصص، لأن المدرسين ليس لديهم وقت لمعرفة جدول اليوم.. ومن بينها أيضاً توحش المدارس فى زيادة المصاريف ورسوم الباصات دون رحمة.
والمضحك أن وزير التربية والتعليم تظاهر بأنه استجاب للحملة، وقام فعلاً بحذف أجزاء من مناهج التعليم، دون أن يتطرق إطلاقاً إلى مراجعة «تقليعة» امتحان «الميدتيرم» الذى ابتدعته مافيا التعليم لنهب مزيد من أموال الأسر فى شراء «الشيتات» والملخصات وكل الحقارات التى تضخ عوائد مالية ضخمة يتقاسمها اللصوص مع بعض كبار المسئولين عن العملية التعليمية فى أرجاء مصر.
والمحصلة أن حلّ أزمة التعليم، وعتق الأسر المصرية من هذا الاستعباد الإجرامى لن يتحقق إلا باستبعاد المسئولين عن التعليم الأساسى من لجان حلّ المشكلة.. لأنهم طرف أصيل ومتربح من تعقيدها، وقد وقفوا لسنوات طويلة ضد تطوير المناهج وتبسيطها حتى يظل التعليم مجرد مورد مالى ضخم يشفط المليارات سنوياً من جيوب المصريين دون أن يقدم لهم غير الجهل والإحباط وفقدان الانتماء والضياع الكامل.