ولما كان اليوم الرابع للاجتياح الإسرائيلي الهمجيّ، لمناطق السلطة الوطنية الفلسطينية، وفي الساعة الثالثة من فجر يوم الأربعاء، الثالث من نيسان، من العام ألفين واثنين ميلادية، وفي العشرين من محرم، من العام ألف وأربعمائة وثلاثة وعشرين هجرية؛ وبعد أن اجتاحت قوات الاحتلال الإسرائيلي مدينة نابلس، من مداخلها جميعاً، بأكثر من أربعمائة وخمسين آلية عسكرية، وأعلنت حظر التجول على المدينة لمدة اثنين وعشرين يوماً بالتمام والكمال، وقصفتها في واحد من هذه الأيام بثلاثمائة صاروخ من طائرات الأباتشي؛ حدثتني نداء أبو طه قالت، حدثتني يسرى حمدي البدوي/ ابنة جبل النار، التي تبلغ من العمر أربعين عاماً، عن أيام العذاب التي عاشتها مع أهل مدينتها، حين قطعت أسباب الحياة عنها. روت عن الموت الذي شاهدته يطوف المدينة، عبر الجثث المحمَّلة على عربات الخضار، وعبر الحفرة التي حفرها الشباب في بستان سعيد طوقان، ودفنوا فيها ثمانية عشر شهيداً؛ لأن المستشفى لم يستوعب عدد الجثث الهائل، والمتزايد.
تحدثت عن منع الجيش سيارات الإسعاف من الوصول إلى الجرحى، في البلدة القديمة، لنقلهم إلى المستشفيات، وعن جامع البيك الذي تحوَّل إلى مستشفى ميداني، كي يقوم بدور إنساني.
وروت عن معاناتها، وتحديها وصمودها، وعن صمود نساء المدينة ورجالها وشبابها، في مواجهة الاجتياح:
ما حدث أيها الجمهور السعيد، ذو الرأي الرشيد، أن جيش الاحتلال، حين اجتاح بدباباته مدينة نابلس الأبية؛ دمَّر البنية التحتية؛ فجَّر مواسير المياه، وقطع خطوط الكهرباء، ولما حاولتُ مع نساء أخريات، الوصول إلى البلدية، لإيجاد حل ينقذنا وأطفالنا من البليَّة؛ وجدنا الدبابات والمجنزرات في انتظارنا، لتمنعنا من الوصول، وتجبرنا بوساطة إطلاق الرصاص، على العودة إلى البيوت.
وفي الساعة الثامنة مساء، بين المغرب والعشاء، وحين وقع ابن أخي الصغير، وكان لا بد من علاجه في المستشفى الميداني القريب؛ خاطرنا وذهبنا إلى المستشفى، رغم خطر الطريق، لأن الأرض مليئة بالمتفجرات، والسير عليها ينذر بالموت بوساطة الألغام.
وصلت بعد عدة ساعات، مرَّت كأنها سنوات؛ لتستقبلني رائحة الموت، والصراخ دون صوت، رأيت جثث الشهداء، ملطخة بالدماء، وطواقم الإسعاف تستنجد بالسماء، كي تتزوَّد بالمعدات الطبية، من أجل أداء مهمتها الإنسانية.
لم نيأس أو نمل، يا سادة يا كرام؛ كررنا محاولة الاتصال بالبلدية، من أجل سدّ النقص في التموين، وإصلاح الماء والكهرباء.
ولما منعنا الجيش؛ فتحنا مخازن الطحين، ووزَّعناه على البيوت.
وحتى تستطيع النساء عجن الطحين؛ شرعنا في تعبئة الماء بصعوبة، من عيون الماء المنتشرة في البلد، وشعارنا: سنسولة ماء ولا نهر مقطوع. ولما كان العجين يحتاج النار للخبيز، وبما أن الحاجة أم الاختراع؛ صرنا نجمع الحطب من الشارع، ونخبز عليه، عملنا موقدة شعبية، واشتركت البيوت في جمع الحطب، والأحجار، وفي الخبز الجماعي، أعادونا إلى الزمن البدائي، عشنا على هذه الحال الكئيبة، واحداً وعشرين يوماً لعينة.
دخل الجيش من بيت إلى بيت، وضعوا علامة بيضاء، أو سوداء، أو خضراء، على الدور التي أرادوا نسفها، ولحسن حظنا؛ كانت الإشارة على بيتنا صفراء، وهذا يعني أنهم لن يهدموها.
دخلوا إلى بيتنا؛ ولكن ليس من بابه؛ بل من صبَّانة فجَّروها بجانبنا، فتّشوا البيت ركناً ركناً، سألوا عن الشباب واعتقلوا كل الرجال، قلبوا المناضد والفراش، ولم يبقوا شيئاً في مكانه! وركَّزوا على الفتحات (سدّه) إذا كانت في الواجهات؛ لكن بيتي، والحمد لله، لا يوجد به سدّه.
كانوا إذا دقّوا على الحيط، وإذا سمعوا صوتاً فيه؛ شكّوا أن هناك باباً وراءه؛ ففجّروه. هذا ما عملوه عند جيراننا، حين دخلوا دارنا؛ سألوا عن الهويّات واعتقلوا أولاد أخي، وأشقائي، واحتلوا البيت المجاور ثلاثة أيام أو أكثر، طوال الليل، كنا نرى الكشّافات، وهي تكشف بيتنا؛ لأنه لا يوجد لدينا كهرباء.
تصدَّع بيتنا بأكمله، بعد أن أصيب بقذيفتين، من دبابة كانت تقصف من الجبل الشمالي؛ تحفَّرت الأرض، وتشققت الجدران، وتكسرّت نوافذ البيت، وأصابه الدمار من كل جانب.
تتساءلون عن مصير بقية المنازل، يا سادة يا كرام؛ دمَّرت قوات الاحتلال الإسرائيلي واحداً وتسعين منزلاً بشكل كامل، وأربعاً وستين منزلاً بشكل جزئي، وتم حصر الأضرار كاملة فقدِّرت بأربعة ملايين دولار أميركي.
ولم تسلم المدارس، أو دور العبادة، أو المباني التاريخية الأثرية؛ اقتحم الجيش الإسرائيلي المدارس، ودمَّر محتوياتها، وجرف الكثير من المباني التعليمية، بهدف تعطيل التعليم في المدينة، وأكبر مثال على ذلك، مدرسة الفاطمية، المدرسة العريقة البهية، التي تقع في أقصى غرب البلدة القديمة، والتي بنيت العام 1897.
دمَّرت قوات الجيش الإسرائيلي الجدار الشمالي الخارجي للمدرسة، وكذلك الغرف الشمالية، بوساطة الجرافات الثقيلة، وقذائف الدبابات، فتصدعت جدرانها الداخلية.
ووفقًا لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم/ اليونسكو؛ تضررت مئات من المباني؛ أربعة وستون منها تضررت بشدة، سبعة عشر منها كانت ذات "أهمية تراثية خاصة"، وتم تدمير أربعة مبانٍ بشكلٍ تام.
هذا عن المباني التاريخية والتراثية التي تفخر بها مدينة نابلس، يا سادة يا كرام، أما الخسارة الأعظم في الأرواح، أيها الأفاضل؛ فقد بلغت أربعة وسبعين شهيداً، ومئات الجرحى، وكان من بين الشهداء، عائلة الشعبي بأكملها.
هل أحدثكم عنها؟ أم عن الشباب: عصام يوسف شقو، وماجد القني؟ أم الطفل محمد حسيب عوض؟ أم الشقيقتين: رشا فايز فريتخ، وزها فايز فريتخ، أم عن صديقة أحمد عكاشة، وعبد الله العكليك، ومحمود روحي العكة، وبرهان عودة؟ أم عن... وووووووووو وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام الجراح!
بالصور: كريستيانو يوقع على اجتياح النصر للتعاون
31 ديسمبر 2023