على ماذا تتربى قواعد الإسلامويين؟

خالد الحروب
حجم الخط

يحفل النص الإسلاموي الحركي بالشيء ونقيضه. في التأسيس الأولي للعلاقة مع المحيط، ثمة نظرة إلى المجتمعات العربية والمسلمة بكونها مسلمة من ناحية لكنها انحرفت عن «الإسلام الصحيح» بما يوجب تصويب ذلك الانحراف، وثمة نظرة أكثر تطرفا تعتبر هذه المجتمعات «جاهلية» يجب تفادي الانخراط فيها أو قبول واقعها، بل وتوجب إعلان الحرب عليها وتغييرها. 
في الوسيلة والأسلوب، هناك الأداة الدعوية التدريجية (من أسفل إلى أعلى) ملزمة ذاتها بالتي أحسن، وهناك الأدوات المتعجلة التي ترفض التدرج وتريد سوق الناس إلى الجنة بالسلاسل (من أعلى إلى اسفل) ولا تتردد في استخدام العنف لتحقيق أهدافها. 
في الأهداف المعلنة، هناك ما يشير إلى أن الغاية هي إعادة المجتمعات المسلمة إلى إسلامها، وما يشير إلى هدف تحكيم الشريعة، أو الدولة الإسلامية، أو تحقيق الوحدة الإسلامية، أو الخلافة، أو ... وإمعانا في الطموح الوصول إلى «أستاذية العالم»! 
إلى جانب النص، حفلت الممارسة الإسلاموية الحركية بالشيء ونقيضه أيضا. 
ترجمت أفكارها وأساليبها واستراتيجياتها على الأرض، سواء ما كان منها سلميا دعويا مجتمعيا، أو عنفيا إقصائيا تعصبيا. وانتجت تلك الممارسة أجيالاً ومدارس وتوجهات، كثيرها يتخبط في مشهد مضطرب من الأفكار والآليات والممارسات المتناقضة التي تنتمي كلها إلى ذات الجذر الإسلاموي الحركي وإن اختلفت في الشكل النهائي أو التعبير. 
في هذا المشهد العريض والمختلطة أوراقه يندلع الجدال الداخلي بقسوة بالغة وتسيطر الاتهامات المُتبادلة بين المجموعات الإسلاموية سواء بالتخلي عن «الإسلام» ومداهنة أعدائه، أو بـ «تمييع الفكرة الإسلامية وعلمنتها»، أو تبني منهج خاطئ تماماً «يخدم الأعداء». 
وفي واحدة من المفارقات بالغة الدلالة تتغنى كل المجموعات الإسلاموية في أدبياتها بـ «الوحدة الإسلامية» التي تستهدف توحيد كل بلاد المسلمين من أفغانستان وأذربيجان إلى لبنان وسورية والمغرب والسنغال، لكن هذه المجموعات ذاتها تفشل في تحقيق الوحدة بينها ولو في أي قطر صغير من أقطار ذلك العالم الإسلامي الواسع الذي تريد كلها بلا استثناء أن توحده! تنطبق هذه المفارقة على الإسلاموية السنية والإسلاموية الشيعية بنفس المقدار، فإيران التي تشتغل إسلامويتها تحت راية «الوحدة الإسلامية» لم تنجز خلال عقود ثورتها الأماموية الطويلة سوى المزيد من التفرقة والتجزئة في العالم الاسلامي والعربي الذي تريد الاخرى ان توحده ايضا!
تُستنزف كتب ودراسات مطولة في محاولة تحليل تناقضات الفكر والممارسة الاسلاموية بما يتجاوز إمكانية اية مقالة سريعة لتقديم تأمل معمق في ذلك. لذلك تتوقف هذه السطور عند جانبين اثنين فقط من الجوانب المتناقضة والمؤسسة للتربية والاعداد التي يتلقاها الافراد المنضوون في صفوف الجماعات الاسلاموية على اختلاف تنويعاتها. 
الجانب الاول يتعلق بعقدة الإثم والتأثيم التي يتم تضخيمها عند الأفراد المُستهدف «هدايتهم» ثم تجنيدهم في الجماعة المعنية. وبفرض حسن النوايا عند القائمين على «مشروعات» هداية الضالين من المسلمين، إلا أن التطبيق العملي يشير إلى فكر كارثي واسلوب اكثر كارثية. 
يتم تصوير «الفرد» الذي تتوجه إليه آليات التجنيد الدعوي والحزبي بكونه يعيش في ضلال مبين وجاهلية عمياء تدكه الذنوب والخطايا من كل الجهات، وتجره لا محالة إلى الدرك الاسفل من جهنم. 
لا مناص له ولا طريقة للنجاة من هذا المصير المُحتم إلا الانضمام إلى «جماعة الحق» وهي الجماعة التي تريد تجنيده. تتغير الأساليب والتعبيرات وتتباين من الموعظة الحسنة ودرجاتها، إلى الخشونة والتخويف والترهيب، لكن جوهر الرسالة التأثيمية واحد. 
يحس الفرد المُنظم الجديد ليس فقط بأنه خلع «كل ماضيه من الجاهلية» بل وبواجب تطهير ماضيه ذاك ومحو آثامه من خلال التزيد والمزايدة في العمل التنظيمي و»خدمة الإسلام» كما يتم تلقينه.
وإمعاناً في محاولة التطهر من الماضي فإن الفرد الجديد مستعد للقيام بأقصى ما يُطلب منه، بل والإصرار على القيام بأقصى «المهمات» والتي قد تصل إلى العمليات الانتحارية. وهذا التدرج في الانتقال إلى أقصى درجات العنف ضد الآخر من أجل تطهير الذات من آثامها عليه شواهد كثيرة جدا خاصة في التنظيمات التي تدعي الجهاد وتنشر القتل ضد الآخر يسارا ويميناً.
ليس هناك في عقل ومخيلة «الأخ المجاهد» أي هدف سياسي أو فهم لما يقوم به أو تأمل لمنعكساته حتى على بقية المسلمين. 
الشيء الوحيد الذي يسلب إرادته هو هذا المزيج الخطر من عقدة الإثم المتخيل والتي لا يفكها إلا «الشهادة»، والجائزة التي يحلم بها وتتوج نجاحه في تطهير ذلك الإثم وهي ظفره بالحور العين السبعين. 
بطبيعة الحال يجب ألا يُستنتج هنا أي ميل للتعميم والقول إن نهاية كل «تائب عن آثام الماضي» هي التطرف والعنف والعمليات الانتحارية، فهذا تسطيح غير مقبول. 
لكن ما يُراد قوله هنا هو وجود علاقة بين درجة عمق عملية التأثيم الأولي وعمق التطرف في آليات التطهر الحزبي اللاحقة. 
الجانب الثاني الذي تتوقف عنده هذه القراءة السريعة هو غياب فكرة التعددية وممارستها وهي شاهد مثير وكبير أيضا على مسألة تجذر الشيء ونقيضه في الأدبيات المؤسسة للإسلاموية الحركية. 
ثمة من ناحية مقولات مكررة تقر بـ «الاختلاف» وأنه من طبيعة البشر، وتشير إلى الأثر الوارد من أن «اختلاف أمتي رحمة»، وتستشهد بتعدد المذاهب الفقهية والمدارس الدينية وهكذا. 
لكن هناك من ناحية أخرى تجذر ليس واعيا للاستئثار بـ «الحق» وبأن «الجماعة» المعنية هي «جماعة الحق» ولا جماعة سواها، وإنها هي الفئة الناجية من بين تلك السبعين التي تتفرق عليها الأمة وتنتهي جميعا في النار إلا واحدة.
في السجالات الاسلاموية الداخلية هناك تحفظ في الغالب الأعم عند عدد كبير من منسوبي وقيادات الجماعات والاحزاب الاسلاموية تجاه الزعم لفظا وعلناً بأن «جماعتنا» هي الفئة الناجية وأنها «جماعة الحق» وما سواها غير الضلال. 
لكن هذا التحفظ اللفظي لا علاقة له بالقناعات الراسخة الواعية أو غير الواعية بأن الجماعة المعنية هي الواقفة على ناصية الحق وحدها، وغيرها تتلطى في ضلالات مختلفة الدرجات. 
الادبيات الاسلاموية التي تقدمها التيارات «المعتدلة» والتي لا تكفر أو تقصي الآخر الاسلاموي أو غيره تحوم حول هذه الفكرة المؤسسة، لتقول لمنتسبيها لفظا إننا «جماعة من المسلمين» فقط ولسنا «جماعة المسلمين» لكننا نأمل ونعمل أن نتحقق بالصفات والشروط التي تؤهلنا لأن نكون «جماعة المسلمين». 
أما أدبيات الجماعات المتطرفة بدءاً من «التكفير والهجرة» ووصولا إلى «داعش» وما بينهما من عشرات التشكيلات فهي صريحة في ادعاءاتها بأنها هي ولا احد غيرها يمثل «جماعة المسلمين». 
والشيء المخيف هنا هو أن هذا السجال برمته هو عمليا سجال اسلاموي ـ إسلاموي، أي انه نقاش يحصر الانتماء لـ «جماعة المسلمين» بين المنضوين في الأحزاب والجماعات الإسلاموية المتنافسة فقط. 
ومعنى ذلك عمليا أن من هم خارج تلك الجماعات لا يستحقون حتى مجرد النقاش حول انتسابهم أم عدمه لجماعة المسلمين أساساً. 
وهذا كله يؤسس أرضية صلبة وقاسية لعنف فكري وعنف سياسي ودموي لاحق لأنه عند أي منعطف تُختبر فيه المقولات أو تتوحش فيه السياسة أو الاستبداد أو غير ذلك، فإن الانزلاق إلى العنف والتكفير يكون سريعاً وأبوابه مشرعة. 
كيف لا و»جماعة المسلمين» يتم اضطهادها وبالتالي فإن إعلان الحرب على من سواها يندرج بسلاسة في الوعي الإسلاموي والحزبي المتراكم. 
وهذا الوعي القاسي والإقصائي يعود في جزء كبير منه إلى فكرة «الجاهلية» و»المجتمع الجاهلي» التي أنتجها أبو الأعلى المودودي في الهند ثم التقطها ونظر لها وأعاد إنتاجها بتطرف أكثر سيد قطب في ستينيات القرن الماضي. 
يقول قطب، والذي لا تزال كتبه وأفكاره ذات التفكير المدمر تدرس في حلقات الإسلامويين وتشكل «معالم طريقهم»: «إنه ليس على وجه الأرض اليوم دولة مسلمة، ولا مجتمع مسلم قاعدة التعامل فيه هي شريعة الله والفقه الإسلامي»، ويقول: «... إن الناس ليسوا مسلمين كما يدعون، وهم يحيون حياة الجاهلية، وإذا كان فيهم من يريد أن يخدع نفسه، أو يخدع الآخرين، فيعتقد أن الإسلام ممكن أن يستقيم مع هذه الجاهلية، فله ذلك، ولكن انخداعه أو خداعه لا يغير من حقيقة الواقع شيئا، ليس هذا إسلاما وليس هؤلاء مسلمين». 
من دون أن تتبرأ الحركات والأحزاب الإسلاموية من هذه الأفكار بلا مواربة، وتنكرها وتتوقف عن تربية أفرادها عليها فإن كل مقارباتها السياسية أو الديموقراطية أو التعددية تظل محط شك عميق.