فضائح، فضائح، فضائح...
عناوين الصحف مثقلة، كل صباح، بالفضائح، ونشرات أخبار التلفزيون تضج في المساء بفضائح أبشع أو أدسم أو أكثر إثارة.
ونطاق الفضائح، أو «مداها الحيوي» يتوسع باستمرار حتى ليكاد يشمل «الدولة» بإداراتها ومؤسساتها جميعاً، ومعها ما اتصل بها من مجالس وهيئات ناظمة و«شخصيات» و«نكرات» شقوا العتمة فجأة واستقروا في عناوين الأخبار «نجوماً» في الحياة العامة بأفضال «الحرام» وكفاءة تحويله إلى «رزق حلال»، تحت طائلة تعطيل الحكومة أو «مصالح الناس».. (تابع جلسات مجلس الوزراء بوقائعها المثيرة وأسباب العراك وتبادل الشتائم داخلها ومن ثم تعليقها حتى تهدأ النفوس.. وتضيع الحقيقة..).
ثمة فضائح تضيع في الطريق إلى القضاء، أو تسبقها إليه الشفاعات وربما التنبيهات والتحذيرات.. فلكل مرتكب «مرجعية» سياسية تهتم لأمره، قد تكون أو يكون من أصحاب الدولة أو أصحاب المعالي أو من أصحاب مواقع حاكمة يمارسون السلطة بغير خوف من الحساب لأنهم محصنون بقوة من أتى بهم إلى حيث هم..
ثم أن القضاء متعدد المراتب والمناصب والاجتهادات، فضلاً عن أن التقاضي درجات فيها البداية والاستئناف والتمييز، وما لا يمكن معالجته من الأمور فوراً، يمكن إرجاء النظر فيه حتى ينسى الناس أمره، أو يقضي الله أمراً كان مفعولاً... فالقدر أقوى من القضاء، بمختلف درجاته، ولا بأس من محاكمة ثانية، أو إعادة المحاكمة لتصحيح الحكم الذي أصدرته المحاكمة الأولى... وجلّ مَن لا يخطئ!
وطبيعي أن تكون للطبقة السياسية، برموزها العليا والمتوسطة، كلمة في الأحكام... أليست هذه الطبقة التي يتشرف الوطن بقيادتها هي المسؤولة عن الدولة كلها، بإداراتها جميعاً والمجالس والهيئات الناظمة أو المنظومة؟! ثم أليست هذه الطبقة السياسية سامية المقام هي من اختار الرؤساء والمديرين العامين وأعضاء مجلس الإدارة في هذه الهيئات والمؤسسات والإدارات العامة؟!
هنا تبرز الإشكالية التي تتجاوز بقوتها القوانين: لا بد من إرجاء «القضايا» قيد النظر حتى ينساها الناس وتسقط من ذاكرتهم تفاصيلها وأسماء «أبطالها» ومن «كان» يحميهم، ثم أعلن أنه قد رفع تلك الحماية... وهذا أخطر تهديد يمكن توجيهه إلى الناظر في القضية: فهو إن صدَّق الإعلان وتصرف بموجبه كان كمن يحكم على صاحب الحماية، أما إن هو تجاهل الحماية أو اعتبرها قد سقطت بتقادم الزمن، أو بنسيان «الحامي» كان كمن يحكم على نفسه بالخلع بتهمة الغباء، إذ صدق الأقوال الشائعة ولم يرجع إلى صاحب الأمر فيستأذنه إصدار الحكم... فربما لم يكن الوقت مناسباً، وربما سيصيب ارتداد النتائج صاحب الحماية بضرر جسيم.
الوزير، كما المدير العام، كما رئيس مجلس الإدارة في مؤسسة عامة، يتحول مع الخطأ إلى موظف بسيط ارتكب خطيئة مميتة تستوجب عقابه حتى تبقى «للمرجعية» التي أتت به إلى مقامه «الهيبة» و«الوهرة» ولا يمس الدنس سمعتها الطاهرة المطهرة.
قديماً قيل: إن السمكة تفسد بدءاً من رأسها..
وطالما أن الفساد يتربع على قمة السلطة، زعيماً، قائداً، مرجعية محصنة بكرامة الطائفة، فمن يجرؤ على المحاسبة، ومن يحمي من يتجرأ على أصحاب الحصانات من أهل الطبقة السياسية التي تحتكر تمثيل الطوائف والمذاهب؟
حتى النفايات وجدت لها مرجعيات عدة وليس مرجعية واحدة!
كذلك فإن لأبطال التفجيرات من يرعى شؤونهم ويؤخر الأحكام عليهم، ويبقيهم «موقوفين» في سجن رومية الشهير حتى ينسى الناس أمرهم.
يخرج الوزراء الجدد في كل وزارة وأي وزارة بتصريحات نارية يدعون فيها أنهم لن يتسامحوا مع المرتكبين والعابثين بالأمن (كما الذين من قبلهم)... ويحاولون الإيحاء أنهم إنما يتحدثون باسم مَن وزّرهم. على أن الزمن كفيل بمحو التصريحات أو دفنها في مقبرة النسيان!
هل تستغربون بعد، يا أتباع القادة الملهمين، والزعماء المبجلين، والأقطاب ممن لا حدود لقدرتهم على اجتراح المعجزات، أن يعطل هؤلاء الذين لا يخطئون القضاء وقبله وبعده مختلف أنواع المحاسبة، لأنهم هم هم الخطاؤون، وهم هم المرتكبون... وهم من عيّن من سوف يحكمون على رعاياهم الذين لولاهم لما كانوا في مواقعهم السامية ولما زينت لهم نفوسهم الأمارة بالسوء أن يقتدوا بالمعلمين، ثم اكتشفوا أن الحماة يتخلون فوراً عن الأغبياء من رعاياهم الذين يتجاوزون حدودهم فيقررون التمثل بمن جاء بهم إلى مواقعهم فحق عليهم العقاب!
عن السفير