فى عام 1981 كنت مجنداً بالجيش المصرى أقضى الأشهر الأخيرة فى خدمتى الوطنية، وقبل ستة أشهر من اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات، تقرر إلغاء كل الإجازات استعداداً لمشروع تدريبى تعبوى استراتيجى يتم على فترات محددة.
جلست أستمع لبيان قائد الفصيلة وقال نصاً: «تمكنت قوات العدو على حدودنا الشرقية من اختراق الممرات بسيناء وتستعد للوصول إلى الشاطئ الشرقى لقناة السويس!!»، أتذكر أننى وقفت وبادرت بالسؤال: «يا فندم عدو إيه والحدود الشرقية إيه؟»، فابتسم قائد الكتيبة وأجاب بصوت صارم: «أقعد يا عسكرى حازم.. إحنا فى الجيش وعارفين حدودنا وعدونا.. مش فى الحزب عندك».
بصراحة صدمتنى جملة «مش فى الحزب عندك»، فلم أتوقع أن أحداً بالفوج يعرف أننى عضو فى حزب معارض، ورغم العلاقات الطيبة مع قائد فصيلتنا ومباريات الكرة فى أوقات الراحة والتى دفعته للابتسام تعليقاً على ملاحظتى، لكنى لم أتوقع أيضاً التعامل بهذه البساطة مع ملاحظتى داخل الجيش وهى ملاحظة سياسية بالأساس.
وقتها كانت اتفاقية كامب ديفيد ومعاهدة السلام مع إسرائيل تسيطران على المشهد السياسى المصرى، وخلقت حاجزاً بين المعارضة وبين الحكم، حيث انصب حديثنا كمعارضين على خيانة التاريخ وبيع الدماء التى سالت فى الحروب من أجل التحرير واسترداد الأرض واستعادة فلسطين السليبة.
كان تفكيرنا أن الدولة المصرية.. قيادتها السياسية بجيشها وقواتها المسلحة باعت تاريخ الوطن، وأعادت رسم الخريطة الاستراتيجية وجعلت من إسرائيل الصديق واستبدلت عداوته بالدول العربية التى قررت مقاطعة مصر عقب توقيع اتفاقية السلام وفتح السفارة الإسرائيلية بالقاهرة.
أصدقكم القول صدمتى كانت عميقة، فحديث المشروع التعبوى الاستراتيجى أربكنى بعنف، وبيان قائد الفصيلة عن العدو القادم من الشرق أصابنى بالشلل، وتجهيز قواتنا وبدء التحرك قبل وصول قوات العدو لشاطئ القناة الشرقى دفعنى للتساؤل عن تحليلنا وتصورنا لجيشنا بعد كامب ديفيد واتفاقية السلام.
كيف توقع القيادة السياسية اتفاقية تغير مسار التاريخ وتضع المنطقة كلها على طريق مختلف لما ظلت عليه لحقب وعهود، وتفرض التزامات سياسية على مؤسسات الدولة، لكن يظل الجيش وفقاً لعقيدته الوطنية التى اكتسبها على مر التاريخ فى رفض التفريط أو التنازل وأن دوره الأساسى لحماية الأرض والعرض ولا ترفض ذلك القيادة السياسية.
تذكرت هذه الوقائع والمعانى وأنا أتابع أحاديث الإفك والتشكيك فى قدرة جيشنا على التفريط فى الأرض والعرض كما قال البعض، والتنازل عن رمال الوطن مقابل أموال أو مشروعات، ورش الاتهامات يميناً ويساراً بالتفريط فى التاريخ والجغرافيا ودماء الجنود التى سالت لحماية الأرض وصونا للعرض.
أصدقكم القول أصابنى الغثيان من هؤلاء الذين تختلط لديهم طموحاتهم السياسية بأحلامهم فيهدرون قيم الوطنية المصرية بالتشكيك فى واحدة من أهم مؤسساته قامت منذ تأسيسها فجر التاريخ على فكرة الذود عن الوطن فى مواجهة الأعداء.
الجيش المصرى لا تتحكم فيه أهواء سياسية أو أيديولوجية، ولا ترسم خطواته مصالح اقتصادية، إنما يعمل فى إطار دوره التاريخى كمؤسس لهذه الدولة بحدودها وأرضها منذ فجر التاريخ وحتى يرث الله الأرض ومن عليها.
لا أعتقد أبداً أن ابناً لهذا الجيش المميز بين جيوش العالم قادر على التفريط فى الأرض، ولا أعتقد أن جنوداً بالقوات المسلحة المصرية يقبلون التفريط فى شبر من أرض الوطن وهم الذين يدفعون حياتهم لحمايتها.
اتقوا الله..
عن الوطن المصرية