إسرائيل ليست متقدمة، بل نحن متأخرون هكذا الأمر ببساطة لأن أية مقارنة بين إسرائيل والدول الإسكندنافية أو حتى بريطانيا وألمانيا تكون إسرائيل في ذيل القائمة، ولكنها وسط هذا المحيط العربي غير المنتج تبدو الأكثر تقدماً ولأنه محيط من الاستبداد تمكنت من تسويق نفسها باعتبارها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط.
صدقت إسرائيل لعبة تفوق العقل اليهودي والحقيقة أن كثيراً من العقول العربية والفلسطينية استطاعت أن تضيف للعلم وللعالم ما يثير الدهشة.
لكن الفرق بيننا وبينهم أن العقل الإسرائيلي جزء من مؤسسته لكن العقول الفلسطينية حالات فردية خارج المؤسسة، وبالقطع لا يستطيع الأفراد مهما كانت قوتهم مقارعة المؤسسة، فإسرائيل كنتاج للعقل الغربي باعتبار أن التأسيس كان معتمداً على التجربة الأوروبية تمكنت بعد أن انتهت النكبة التي قادتها عصابات عسكرية يهودية من مأسسة التجمع اليهودي في فلسطين وأصبحت المؤسسة تعلو على الأفراد بما فيها الأب الروحي بن غوريون الذي غادر بعد سنوات قليلة من إعلانه الدولة، فيما ظل الفرد في الوعي العربي أهم من المؤسسة ومن الدولة، والنماذج كثيرة إذ دمرت دول من أجل الأفراد وصنعت مؤسسات من أجل أفراد.
لن ينتصر الفلسطيني إذا قبل أن يكون أقل كفاءة في مواجهة إسرائيل وهذه لا تحتمل الاجتهاد أو الانتظار حتى، والحقيقة أن الفرصة التي أعيطت لنا لحكم أنفسنا لم تحقق النتائج المطلوبة في مواجهة الدولة بهذا الشكل، فما قدم من نموذج حتى اللحظة لا يبشر كثيراً لأن هناك مفهوماً قاصراً في مواجهة إسرائيل وانتزاع الحقوق منها، والمثير للحزن أننا حتى الآن لم نحقق ما يجب أن يكون وكان بالإمكان فعله.
لقد ظلت دول عربية على امتداد عقود تتحدث عن التوازن الاستراتيجي في مواجهة إسرائيل، وبوعي قاصر بقيت تعتقد أن التوازن مع إسرائيل هو توازن عسكري يعتمد على الترسانة المسلحة وقد غفلت تلك الدول عن بناء أوطان حقيقية لتكشف بعد عقود أنها دول انهارت مع أول هبة ربح أو مع أول عصابة مسلحة، ولولا ايران وحزب الله وروسيا لانهارت الدولة السورية فيما إسرائيل فاعل كبير في صراعات الشرق الأوسط.
ولدينا نحن الفلسطينيين ما يشبه ذلك المنطق معتقدين أن الإعداد لمواجهة إسرائيل هو إعداد عسكري فقط، وأن الندية معها هي ندية كلامية ويتحدد النصر أو الهزيمة من مستوى التصريحات التي تطلق.
الندية مع إسرائيل لا تقتصر على العمل المسلح والكلام فقط بل تعني مؤسسة مقابل مؤسسة. الندية مع إسرائيل تعني القانون الذي يسري على الوزير والغفير، على الغني والفقير. الندية مع إسرائيل تعني بناء جامعات قوية ونظام تعليمي متطور. الندية مع إسرائيل تعني نظاماً صحياً متقدماً ومستشفيات متقدمة وأطباء مهرة وأن نتوقف عن تحويل مرضانا إلى مستشفياتها. الندية تعني مراكز أبحاث وتعني احترام حقوق الإنسان وحرية الرأي وانتخابات في موعدها وأجهزة شرطة وأمن تخشى المواطن لا العكس. الندية تعني صحافة حرة ورقابة قوية على أجهزة الدولة، وقضاء مستقلاً. الندية تعني وضع الرجل المناسب في المكان المناسب بعيداً عن الواسطة والمحسوبية وتفضيل أبناء الحزب. الندية تعني وضع الإنسان كقيمة أعلى في الوطن ودون ذلك نخدع أنفسنا.
إن القوة العسكرية والجيوش هي نتاج مجتمعات ودول تكاملت فيها عناصر القوة وأن قوة الدول هي مجموع نتاج كل ما سبق ذكره من جزئيات وتفاصيل تسير بالتوازي ولا يتخلف عنصر منها عن باقي العناصر.
نعم نستطيع وهذا لا يحتاج إلى عبقرية نادرة أو قوة خارقة فقط. نحن بحاجة إلى إدراك حاجتنا للريادة في كافة المجالات. أن نبني مؤسسة عصرية ولدى الفلسطينيين من الكفاءات ما يمكن تحقيق أفضل النتائج وأكثرها تفوقاً ليس فقط المنتشرة عبر العالم ولكن الموجودة في الوطن، والأمثلة كثيرة.
فكثيرا ما وقف الأطباء الإسرائيليون مبهورين من أداء أطبائنا في المستشفيات الإسرائيلية وهذا مثال فقط، ألم تعتقل إسرائيل صبياً قبل فترة وجيزة على معبر إيرز بتهمة اختراقه للتكنولوجيا الإسرائيلية؟ والحقيقة أن هذا الصبي كان مجرد هاو بعيداً عن التهويلات الإسرائيلية، ولكن السؤال هل هناك مؤسسة فلسطينية فكرت باستثمار عبقريته؟ ومثله كثيرون في الوطن بعيدون عن الرعاية والاستثمار.
إن من يعتقد بالتفوق على إسرائيل بالعمل العسكري وحده هو مخطئ، ليس فقط لأن إسرائيل عبارة عن ترسانة أسلحة، بل لأنه لا يعرف ممكنات القوة الحقيقية للشعوب. وهذا الفهم المنقوص يدخلنا في أزمات متعددة، بل ويطيل عمر الاحتلال.
بالكلام لن نشكل نِداً ومن يعتقد أن اللغة يمكن أن تصنع ندية مع إسرائيل فهو أيضاً مخطئ، ولكن ما يثير الغضب أن بالإمكان منافسة إسرائيل بل والتفوق عليها في كثير من النواحي فما نقدمه من مستوى لا يليق بنا.
إن كل ما فعلته إسرائيل لم يكن نتاج العقل اليهودي، بل هو نقل وتقليد للتجربة الأوروبية التي كانت تتبلور في القرنين السابقين على إنشائها، سواء من وضع التصور النظري ثيودور هرتسل في كتاب «الدولة اليهودية» أو الذي أشرف على تحويل ذلك التصور إلى واقع دافيد بن جوريون، وهما يهوديان أوروبيان ألهمتهما تجربة الغرب بعد الثورة الصناعية وثورات أوروبا في القرن الثامن عشر، ولم يقدما سوى ما يشبه واحدة من تلك الدول وهنا ما يستحق التأمل.
الحقيقة أن التجربة الفلسطينية في الحكم ظهرت في تسعينيات القرن الماضي كنتاج للتجربة العربية التي تأثرت بها الثورة الفلسطينية، وبالتالي كان هنا الفرق.. هذا الفرق لم يعد مقبولاً ونحن نراقب ونشاهد ونقارن وخاصة أننا على قناعة أن شعبنا بإمكانه إنشاء أفضل مما هو لدى إسرائيل. فلا تطبيق القانون عِلم صعب ولا التعليم والصحة يحتاج إلى استيراد كفاءات، ولا حرية الصحافة والمواطن بحاجة إلى عقود لفهمها وممارستها، ولا مراكز الدراسات علم خارق ولا الانتخابات معجزة.
قادرون على ذلك وأمامنا تجارب كثيرة، والمهم أن نريد ويجب أن نبدأ. فقد ضاع ما يكفي من الوقت ونحن نجرب نماذج ساذجة آن الأوان لتغييرها والعمل بشكل حداثي، ما يؤلم أننا نستطيع ولم نفعل..!