د. إيهاب بسيسو " قراءة أولية في كتاب الحرب لـ فاروق وادي "

thumbgen (1)
حجم الخط

يكتب فاروق وادي عن الحرب الأهلية في لبنان بلغة خاصة كأنها خارجة لتوها من التجربة رغم مرور أربعين عاما على اندلاعها في نيسان ١٩٧٦. في كتابه "ديك بيروت يؤذن في الظهيرة: كتاب الحرب" يتخذ فاروق وادي مسارا مغايرا للسرد ينطلق من التفاصيل الحياتية لغير المقاتلين، تلك التفاصيل التي تبدو هامشية في ظل دوي القذائف والسرد السياسي الصارخ المتمم لصوت البارود أو العكس.

فاروق وادي أراد بعد كل هذه الأعوام أن يخرج من صندوق السرد تجربة الحرب كي تصدر في كتاب عن منشورات ضفاف في بيروت ومكتبة كل شي في حيفا متوجا بثلاث وعشرين قصة قصيرة تقع في ١٨٣ صفحة من القطع المتوسط.

السرد هنا مزيج من لغة وتجربة وحياة تستمد مفرداتها من ذاكرة متقدة ما زالت قادرة على صياغة اليومي البعيد في نص يعتمد على الرؤية الانسانية واللغة المتقنة.

يبدو فاروق وادي في هذه المجموعة القصصية أقرب إلى سردية الراوي الذاتية للحرب من خلال علاقته العميقة مع المكان بمفرداته الانسانية والسياسية المتنوعة. تنوع الفضاءات السردية بالإضافة إلى ثراء الكثافة الرمزية من خلال الدلالات والمفارقات جعلت المجموعة القصصية أقرب إلى بيان انساني حول تداعيات الحرب ثقافيا واجتماعيا وسياسيا.

السرد اشتباك النص مع عناصره المؤسسة من بشر ومشاهد ولغة وتاريخ.

هنا فلسطين في بيروت في تجربة أب قادم من الكويت للبحث عن ابنته في مدينة الحرب. أو في تجربة شاب فلسطيني مع حب لم يكتمل في صباح مجزرة عين الرمانة. أو في يوميات جميلة التي افقدتها الحرب صوابها مع انتظار لحبيب لم يعد. هنا بيروت في فرقة موسيقية ذابت في الدوي والقصف في رجل ثمانيني كتب رسالته الاخيرة عله ينقذ بالكتابة جسده من نمل خفي وعزلة. أو في صراع داخلي بين الطفولة وهواجس الحرب في ليل رجل وحيد يحاول التحرر من قلق القذائف. أو في الاحلام الشخصية "للرفيق" الذي يتابع نتائج انتخابات البرتغال بشغف أممي في ظل الحرب الدائرة بين شطري المدينة.

يمكن القول إن الحرب هنا مسارات لسرد مشرع على كل الهواجس والتحولات التي تهيمن على زمن المعارك كما أنه يعتمد على شعرية واضحة في المشهد السردي لاسيما في براعة التقاط المفارقات والتحولات في نمط الحياة للشخصيات السردية.

"عندما تنتهي الحرب" صرخة سردية للحياة في وجه استمرار الحرب، أراد من خلالها فاروق وادي أن يقذف في وجه الحاضر صدى الصرخة البعيدة التي لم توقفه عن الحياة ولكنها استمرت في حصد البشر وما زالت مستمرة كأن الحرب لم تتوقف بعد، وإن اتخذت مسارا ابتعد عن الرصاص وفصول المعارك اليومية.

في " ديك بيروت يؤذن في الظهيرة" شكلت تداعيات الخروج الفلسطيني من لبنان بعد اجتياح بيروت في صيف ١٩٨٢ ركنا من أركان السرد في سياق تجربة الحرب التي استمرت بعد هذا التاريخ لعدة سنوات. بدا هذا واضحا في التقاطه للتفاصيل الانسانية وفي بنائه للسرد في "كم كانوا ظرفاء" "وسر بطرس طنوس" و"شرفة على شجرة الأرز". تلك الشجرة التي اختفت في رمزية تساءل من خلالها الكاتب بعد سنوات على انتهاء الحرب "عن المكان الذي رحلت إليه شجرة الأرز" بكل دلالاتها وثرائها وتاريخها الطويل.

إنها رمزية سرد تتجاوز جغرافيا المكان لتقترب أكثر من الرؤية الانساينة لفصل من فصول الأوديسة الفلسطينية كما كتبها فاروق وادي.