في الذاكرة الفلسطينية، شهر نيسان أكثر الشهور ازدحاما بالأحداث الموجعة والذكريات الأليمة؛ فيه ذكرى مجزرة دير ياسين، واستشهاد عبد القادر الحسيني، ومعركة القسطل، وفيه استشهد القادة الثلاثة (كمال عدوان، وكمال ناصر، وأبو يوسف النجار)، وفيه استشهد عبد العزيز الرنتيسي، وأبو جندل ومحمود طوالبة، وغيرهم كثيرون.
وإلى جانب ذكرى الشهداء، يُذكّرنا نيسان بيوم الأسير، يذكّرنا بآلاف الأسرى الأبطال، الذي يواصلون نزف أيامهم وأغلى سنيهم على مذبح الحرية.
لكل الشهداء ذكرى عزيزة وغالية، ولهم جميعا مكانة كبيرة في الوجدان الوطني؛ لكن الاستحضار المكثف لذكرى «خليل الوزير»، هذا العام، والأعوام السابقة، له أهمية خاصة؛ إنه استحضار لروح الفداء، وللنَّفَس الثوري، والنهج الوطني المقاوم، الذي خطه أبو جهاد بتضحياته وختمه بدمه.. والذي نحن بأمسّ الحاجة إليه، خاصة بعد الفراغ المدوي الذي خلفه الشهيد بغيابه، والذي لم يستطع أحد أن يسده، أو يعوض ولو جزءاً منه.
نحتاج في هذه الأيام أن نستحضر كلمات أبو جهاد الأخيرة، التي كتبها قبل رحيله بأيام، والتي بدأها بعبارة «لنستمر بالهجوم»، وأكد فيها «أن الجماهير قوتنا وجيشنا، وعلينا أن نحافظ على روحها الهجومية الوثابة، التي تُذكيها دائماً نار التضحية، وشعلة العطاء المتوهجة».
نستحضر «أبو جهاد»، لأنه لم يكن يخشى مواجهة العدو، بل كان يرى أن الثورة تقوى ويشتد عودها عبر مواجهته، ولأنه كان مؤمنا بأن الانتفاضة قادرة بشروطها على دحر الاحتلال، خلافا لمن يتحدّث عن عبثية الانتفاضة أو انتحار شبانها، ومن يتذرّع بظروف المرحلة، ليبرّر تقاعسه عن الانخراط فيها.
نستذكر «أبو جهاد» لأنه منذ فجيعة فقده فجر ذلك اليوم الحزين، أخذت الأمور تتدهور وتتراجع تدريجيا، إلى أن وصلنا مكانة لم تكن لتخطر في أسوأ كوابيس القادة الأولين.
ولكن شهر نيسان «أقسى الشهور»، فيه أيضا صفحات بطولية، تجعل لمذاقه طعما آخر؛ في نيسان 2002، اشتد الحصار الإسرائيلي على ياسر عرفات في المقاطعة، وتزامن ذلك مع اجتياح شامل لكافة المدن الفلسطينية، التي تصدت ببسالة لدبابات الاحتلال، وخاضت معه مواجهات عنيفة، كان أشدها في بيت لحم، حيث حوصر المقاتلون في كنيسة المهد، وفي نابلس، حيث دارت أعنف الاشتباكات في البلدة القديمة، وفي جنين، حيث خاض المخيم أشرس المعارك، وقدم نمودجاً فريداً في الصمود والقتال استمر حتى نفدت ذخيرة المقاتلين، الذين كانوا قبل ذلك قد مرّغوا سمعة جيش الاحتلال بالوحل، وكبدوه خسائر غير مسبوقة في الأرواح.
ولكن، ما هو الرابط بين كل تلك الأحداث والذكريات ؟ وما الفائدة من سردها، وإحيائها كل عام ؟ في الحقيقة، رغم أهمية تكريم الشهداء، وضرورة إحياء ذكراهم خاصة للأجيال الجديدة، إلا أن الأهم من ذلك، هو مراجعة وتقييم تلك التجارب، وأخذ العبر منها.
إلا أنه وللأسف الشديد، احتفالات تكريم الشهداء عبارة عن مراسم رسمية، وإلقاء كلمات، ومن النادر أن يقوم باحثون أو مراكز دراسات بتحليل ودراسة تلك التجارب برؤية نقدية علمية، والبناء عليها، وتقديم توصيات بحيث يستفيد منها صناع القرار والمخططون، والمناضلون من الأجيال الجديدة.
أما ما يربط تلك الأحداث ببعضها، فهو قصة الكفاح الفلسطيني المتواصل منذ أكثر من قرن، والتي تعني بالضرورة تقديم شهداء وقصص بطولة ونجاحات وإخفاقات.. وإذا كان أصحاب الذكرى عند ربهم يرزقون؛ فإن في ذاكرتنا أيضا متسعا لأبطالٍ ما زالوا أحياء، ولحياتهم أهمية خاصة، تماما كما هي مهمة ذكرى هؤلاء الشهداء الكبار.. فالأبطال الذي خاضوا حصار بيروت، ومعارك الجنوب، ومأثرة مخيم جنين وحصار المهد والبلدة القديمة والمقاطعة ما زال كثير منهم أحياء، ولكن لأسباب كثيرة كلنا يعرفها جيدا، بات هؤلاء كما لو أنهم مجرد ذكرى لأناس مضوا وصاروا فصلا من التاريخ.
من بين هؤلاء الأبطال مروان البرغوثي، والذي تحل ذكرى اعتقاله هذا الشهر أيضاً.
نستذكره لأننا بأمس الحاجة إليه، خاصة بعد تراجع مكانة فتح، وتأخرها عن ممارسة دورها التاريخي؛ فمروان هو مهندس الانتفاضة الثانية، كما كان أبو جهاد مهندس الانتفاضة الأولى، وإذا كان «أبو جهاد» قد صاغ برنامجه معتمدا على شعاره الأثير «لنستمر بالهجوم»؛ فإن مروان قدّم في رسالته الأخيرة برنامجاً كاملاً للنضال الفلسطيني.
برأيي المتواضع فان أية حركة تريد أن تحافظ على مكانتها وديمومتها تحتاج قادة يتمتعون بشعبية جماهيرية، وعليهم ما يشبه الإجماع، وليس هناك من له شعبية توازي شعبية مروان البرغوثي.
نحتاجه لأننا عرفناه مناضلا يقود بروح المغامر، وقلب الفدائي، وإحساس المسؤول، ولأنه الأقدر على اقتحام المراحل، واتخاذ القرارات الصعبة، ولأنه منفتح على العملية السياسية بعقلية براغماتية واعية، تحافظ على الثوابت.
مروان كان له الإسهام الأبرز في تأسيس «الشبيبة» و»كتائب شهداء الأقصى»، وحين كان حاضرا على تفاصيلها قدمت الكتائب (خاصة في أول سنتين من الانتفاضة) نموذجا رائعا وواعيا في العمليات الفدائية، واستهداف المستوطنين، لكنها بعد ذلك أخذت تتحول إلى جزء من الفوضى الفلسطينية.
مروان الذي استحق عن جدارة لقب «مانديلا فلسطين»، وظل حاضرا في كل تفاصيل الحياة السياسية الفلسطينية رغما عن السجان، لا بد أن يكون حاضرا بقوة إذا رغبت فتح في تقديم مرشحها للرئاسة في الانتخابات القادمة؛ ببساطة لأنه أمل فتح الكبير، ورهانها الرابح، ليس للفوز بالانتخابات، بل لإعادة فتح إلى مكانتها الطبيعية، ولملمة شتاتها، وتوحيد صفوفها، ولاستعادة روح الكفاح الثوري التي فقدنا جزءاً كبيرا منها.
وأكثر ما يثير السخرية، مقولة ساذجة يرددها خصوم وأعداء مروان، بأن إسرائيل ستفرج عنه بعد أن قامت بتلميعه، وتهيئته للحل السلمي... في هذا الشهر يكون قد مضى على أسره 14 عاما، مضافاً إليها نحو ست سنوات أمضاها أسيرا في فترات سابقة.. فهل عشرون سنة في الأسر، ومثلها في ساحات الوغى لا تكفي لدى البعض ليسلم بوطنية مروان!!
«مروان»، و»أحمد سعدات»، وكل الأسرى الأبطال، على موعد مع الحرية، بهم، ومع شبان الانتفاضة، مع الجيل الجديد، ومع روح «أبو جهاد» و»أحمد ياسين» و»أبو عمار» وكل الشهداء والشرفاء سنصنع التغيير، ونصنع فجر فلسطين القادم.