يبدو أن كل ما يمكن قوله كُتب، أُعلِن، نُفيَ وصُرّح به حول الحادثة التي صدمت الدولة منذ أسابيع. كل شيء، فيما عدا ما هو رئيسي.
في قلب الحادثة يقف "الجندي الذي أطلق النار في الخليل". لا يُسمح للرقابة العسكرية أن تدعوه باسمه. يمكن أن يسمى "الجندي أ".
حدث ذلك في منطقة تل الرميدة في الخليل المحتلة، التي تعيش فيها مجموعة من المستوطنين من الأكثر تطرّفا بين 160 ألف فلسطيني، تحت حراسة عسكرية مشدّدة. ويحدث فيها الكثير من حوادث العنف.
في ذلك اليوم، هاجم فلسطينيان جنودا بالسكاكين. فأُطلقت النيران عليهما فورا. لذلك قتل أحدهما فورا، أما الفلسطيني الآخر فأصيب بجروح شديدة فاستلقى على الأرض.
كان موقع الحادثة مليئا بالناس. وعالج المسعفون الجندي الذي أصيب بجروح طفيفة (ولكنهم لم يعالجوا الفلسطيني). تجوّل بعض الجنود والضباط في المكان، وبعض المستوطنين أيضًا.
بعد ستّ دقائق ظهر الجندي "أ". نظر إلى ما يحدث طيلة نحو أربع دقائق. بعد ذلك توجّه إلى الفلسطيني الجريح وأطلق رصاصة على رأسه عن قرب. وقد أظهر تشريح الجثة بعد الوفاة أنّ الرصاصة هي التي قتلته.
يظهر في الصور أنه في نهاية الحدث يصافح الجندي "أ" باروخ مارزل، سيئ السمعة، وهو أحد أعضاء حزب الحاخام مائير كاهانا (الذي عرّفته المحكمة العليا كفاشيّ).
حتى هذه اللحظة ليس هناك جدل حول الحقائق. لسبب بسيط: صُورت الحادثة كلها عن قرب من خلال كاميرا فيديو من قبل مواطن عربي. لقد قدمت جمعية "بتسيلم" مثل هذه الكاميرات إلى العديد من الفلسطينيين، من أجل هذا الهدف تحديدا.
("بتسيلم" هو اسم توراتي ومأخوذ من سفر "التكوين". قيل هناك إنّ الله قد خلق الإنسان على صورته. وهي إحدى الآيات الأكثر إنسانية في الكتاب المقدس، لأنّها تعني أنّ كل البشر، دون تمييز، خُلقوا على صورة الله).
تلعب الكاميرا دورا مركزيا في هذه الحادثة. ففي الانتفاضة الحالية قُتل العديد من منفّذي العمليات الفلسطينيين في حوادث كهذه. هناك اشتباه كبير أنّ يكون العديد منهم قد أعدِموا بعد أن تم "شل حركتهم"، أي بعد أن أصيبوا أو سجنوا.
وفقا للأوامر، تحظر الأركان العامة على الجنود كليا أن يقتلوا الأعداء الذين لا يشكّلون خطرا على الحياة. من جهة أخرى، يدعي الكثير من السياسيين والضباط أنّه "يحظر أن يبقى الإرهابي على قيد الحياة" بعد تنفيذ العملية. كانت هذه أوامر غير رسمية صرح بها رئيس الحكومة الأسبق، إسحاق شامير، (الذي كان في شبابه إرهابيا كبيرا).
ومع ذلك، لم تقبل قيادة الجيش العليا أبدا هذا التصريحات. فمنذ فترة تولي شامير، عندما قتل رئيس "الشاباك" خاطفَي الحافلة الأسيرين، كان من المقرّر أن تتم محاكمته، لولا أن رئيس الدولة قد عفا عنه، لذلك تمت إقالته من منصبه.
في حادثة أخرى صُورت شابة فلسطينية وهي تجري في الشارع وتلوّح وبيدها مقص. فأطلق شرطي النار عليها حتى الموت من مسافة قريبة.
في كل هذه الحوادث، صنعت الكاميرا الفارق.
سأل قائد الجندي "أ" جنديّه في المكان فورا لماذا قتلت الفلسطيني الجريح؟ فأجاب الجندي "أ" بشكل عفوي: "لقد أصاب صديقي، إذن فهو جدير بالموت".
خلال وقت قصير أدرك الجندي "أ" أنّها إجابة غير جيدة، فصحّح الرواية: وقال إنه رأى سكينا بالقرب من الفلسطيني، وشعر مهددا. إلا أن جنديّا آخر كان قد ركَل السكين مسبقا وأبعدها عن منفّذ العملية.
بعد ذلك اخترع الجندي "أ" رواية أخرى، وما زال يتمسّك بها حتى الآن. وبحسبها، فقد لاحظ نتوءًا تحت سترة منفّذ العملية، وظنّ أنّه يرتدي حزامًا ناسفًا. لذلك أطلق النار عليه من أجل إنقاذ حياة الأشخاص من حوله. هذه الرواية غير معقولة أبدا، على أقلّ تقدير، لأنّ الكاميرا تُظهر بوضوح أنّ مَن كان حوله لم يكن قلقا، لأنه تم فعلا تفتيش الجريح قبل ذلك.
ومن ثم أعلن قسم التحقيق الجنائي في الشرطة العسكرية أنّه يعتزم تقديم الجندي "أ" إلى المحاكمة بتهمة القتل. فاندلعت عاصفة هائلة. في جميع أرجاء البلاد في إسرائيل هاجم اليمينيون، المستوطنون، السياسيون وأمثالهم القيادة العسكرية مهاجمة غير مسبوقة.
ندّد وزير التربية، نفتالي بينيت، من حزب "البيت اليهودي" غاضبا بوزير الدفاع، ورئيس الأركان الأسبق، العضو في "الليكود".
ولكن لم يرتدع رئيس الأركان الحالي، غادي أيزنكوت. لقد كرر أوامر هيئة الأركان العامة ودعم بقوة قرارات قسم التحقيق الجنائي في الشرطة العسكرية حول مواجهة رسائل آلاف المعقّبين التي شتمت القيادة العسكرية. أيّد بنيامين نتنياهو في البداية تأييدا ضئيلا وزير الدفاع في حكومته، ولكن بعد ذلك هاتف والد الجندي "أ" معبرا عن دعمه للأسرة.
وكان ذلك البداية فقط. هاجم والدا الجندي "أ" بشكل علني قيادة الجيش الإسرائيلي لكونها "تخلّت" عن ابنهما. وشتم مقاتلو الوحدة العسكرية التي يخدم فيها الجندي قيادتهم وقسم التحقيق الجنائي في الشرطة العسكرية بحرية، وسُمعت في كل البلاد الأقوال أنّ الجندي "أ" يعتبر "بطلا".
أجرى جنود ومواطنون أمام مبنى المحكمة العسكرية مظاهرات، داخل مجمّع الجيش الإسرائيلي. وجلس وزراء وأعضاء كنيست في قاعة المحكمة لإظهار تأييدهم للجندي "البطل". ودعت الغوغاء وزير الدفاع ورئيس الأركان إلى الاستقالة.
وهنا سأسعى إلى إضافة عدة ملاحظات شخصية.
في حرب 1948 كنت جنديّا في وحدة عسكرية حظيت باسم "ثعالب شمشون" كوسام جماعي. شاركتُ في نحو 50 مواجهة مع العدوّ. وكتبتُ كتابين عن تلك التجربة. الأول، "في ميادين فلسطين 1948"، وقد كتبته خلال الحرب ووصفت فيه المعارك، وكل ما جاء فيه يعبر عن الحقيقة فحسب. ولكن ليس كل الحقيقة. وكتبت الكتاب الثاني، "الوجه الثاني للعملة"، بعد الحرب. لقد وصفت فيه الجوانب المظلمة من الحرب، ومن بينها جرائم الحرب، وهكذا كنت "كاسر الصمت" الأول.
وعلى أساس هذه التجربة أجرؤ على القول إنّ من يدعو الجندي "أ" "بطلا" يهين مئات آلاف الجنود الشرفاء الذين خدموا في الجيش الإسرائيلي منذ ذلك الحين وحتى اليوم، ومن بينهم أبطال حقيقيون (مثل الجنود الأربعة ذوي الأصول المغربية والذين خاطروا بحياتهم لإنقاذي عندما أصِبت).
البطل هو جندي يخاطر بحياته لإنقاذ صديق أو تنفيذ مهمة إيجابية أخرى. الجندي الذي يطلق النار على عدو جريح ليس بطلا، وتسميته كذلك تهين كل الجنود الشرفاء الذين يحاولون الحفاظ على إنسانيّتهم في ظروف قاسية، وأحيانا غير محتَمَلة.
لا يحتاج الجندي الشريف إلى أوامر رئاسة الأركان كي يميّز بين المسموح والممنوع، بين اللائق والقبيح، بين البطل والجبان الحقير، فهو قادر على أن يميز بينها ببساطة.
وربما هناك من يتساءل عن موقفي من الجيش.
أنا من دعاة السلام، وأكره الحرب. ولكنني لست شخصا ساذجا. أعلم أن كل دولة تحتاج إلى جيش، ليس فقط في أوقات الحرب وإنما في أوقات السلام أيضا.
صحيح أنّ كل جيش هو آلة للقتل. ولكن بعد فظائع حرب الثلاثين عاما في القرن السابع عشر، وضعت الشعوب المتحضّرة قيودا. وأهمها: يُسمح باستخدام العنف عندما يخدم أهداف الحرب، ولكن يحظر استخدامه بأيّ شكلٍ من الأشكال ضدّ البشر العاجزين، كالجرحى والأسرى.
كما توقع بعضنا مسبقا، فقد أفسدت 50 سنة من الاحتلال جيشنا بمختلف الطرق. لم يعد هذا الجيش مصدر فخر لي. إنه يشبه الشرطة الكولنيالية أكثر من جيش يفترض به أن يحمي البلاد في حالة الفوضى.
قد يتساءل الأجانب عن كون قيادتنا العسكرية أكثر اعتدالا من الحكومة والسياسيين في الغالب. وكان هذا الوضع سائدا في إسرائيل دائما نتيجة للظروف التاريخية. لدي العديد من الادعاءات ضدّ القيادة العسكرية، ولكن علي أن أثني عليها وأمدحها بفضل طابعها وقدرتها على ضبط النفس في هذه القضية.
النقطة الرئيسية في هذه الحادثة، والتي لا يجرؤ أحد على التفوّه بها، هي أنّ هذه هي المرة الأولى في تاريخ دولة إسرائيل التي نشهد فيها تمرّدا حقيقيّا.
ليست هناك طريقة أخرى لوصف هذه الحادثة.
نشهد في هذه الحادثة تمرد مجموعة من الجنود على قادتها، وهي تحظى بدعم جزء كبير من الشعب. فهذا يشكل تهديدا من الدرجة الأولى على بنية الدولة، وعلى بقية ديمقراطيتنا.
إنّ الفساد الذي بدأ في الأراضي المحتلة ينتشر الآن في الدولة كلها. وهو الآن يظهر في مؤسسة واحدة تتمتّع حتى الآن بمحبّة الشعب (اليهودي) كله: الجيش الإسرائيلي.