من الملفت للنظر أن الفضيحة الجديدة التي وُصفت بأنها الأكبر في التاريخ، لم تلقَ نفس الاهتمام والصخب الإعلامي الذي لاقته «وثائق ويكيليكس»، رغم أنها تضمنت أسماء زعماء ورؤساء، ومسؤولين كبار من مختلف دول العالم!! ومع أن حجم ملفاتها أكبر بنحو 1500 ضعف من حجم «وثائق ويكيليكس». (حجم ملفاتها 2.6 تيرا بايت / 11.5 مليون وثيقة).
الفضيحة الجديدة التي تعرف باسم «أوراق بنما»، هي حصيلة تحقيق صحافي ضخم شاركت فيه أكثر من مئة صحيفة وموقع إلكتروني حول العالم، ونشره «الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين» (مقره واشنطن). وهي مبنية على وثائق لم يعرف مصدر تسريبها حتى الآن، كان أول من حصل عليها صحيفة «سودويتشه» الألمانية، قبل أن يتم توزيعها على 370 صحافيا (منهم 9 عرب) من 70 بلدا للتحقيق فيها، ضمن عمل مكثف وسري استمر عاما كاملا. ما يبرهن أن للتحقيقات الصحافية قدرة استثنائية على إظهار الحقائق، بل وإنها تفوقت هذه المرة على أجهزة مخابرات عتيدة.
تحتوي «أوراق بنما» على بيانات تتعلق بعمليات مالية لأكثر من 214 ألف شركة عابرة للبحار، في نحو 200 دولة، وهذه الشركات مرتبطة بشركة واحدة اسمها «موساك فونسيكا»، ومقرها في بنما، وتعمل في مجال الخدمات القانونية منذ 40 عاما، وهي مملوكة لشخص ألماني وآخر بنمي، وتعدّ إحدى أكثر الشركات التي تحيط أعمالها بالسرية، وتقدم خدمات مشبوهة لعملائها مثل غسيل الأموال، وتفادي العقوبات، والتهرب من الضرائب، وإخفاء الثروات، أو تمرير معاملات غير قانونية كالرشاوى. حيث تقوم الشركة بتأسيس وإدارة شركات وهمية في جُزر ومناطق لا تخضع للقوانين الضريبية التي تفرضها الدول عادة، مقابل عمولات معينة، ولدى الشركة عشرات الفروع في معظم الدول التي تُعد «ملاذات ضريبية» وليس فيها قيود على الادخار، وتعتبر مسارا موازيا للاقتصاد العالمي، مثل سويسرا، قبرص، بنما، جزر الكاريبي والجزر البريطانية العذراء. ومع أن قوانين الخصوصية في تلك الدول تحمي من يتعامل مع بنوكها، إلا أنه نادرًا ما يقوم الساسة أو المشاهير بالتعامل معها بأنفسهم، ويفضلون أن يتم ذلك عن طريق «شركات وهمية».
والشركة الوهمية لا تُدير عملًا حقيقيّاً، وليس لديها منتج معين، أو خدمة فعلية، عملها الحقيقي هو إدارة الأموال التي تصلها وتحويلها من مصدرٍ إلى آخر، مع إخفاء هوية مالكي الأموال الأصليين. ولكن، ليس كل مستخدمي الشركات الوهمية هم من اللصوص والمجرمين بالضرورة؛ فهناك بعض رجال الأعمال في الدول القمعية، أو التي تخضع لحكومات فاسدة، يقومون بالتعامل مع الشركات الوهمية لتجنب دفع أتاوات ورشاوى للمتنفذين في الدولة، أو لتجاوز القيود المفروضة على العملة الصعبة، أو التملص من قوانين الإرث، أو للالتفاف على الحصار الأميركي أو العقوبات الدولية.
وأظهرت «أوراق بنما» تورط 140 شخصية عالمية، من رؤساء دول ووزراء وجنرالات، وزعماء وملوك عرب وأمراء وشيوخ سابقين وحاليين، منهم على سبيل المثال لا الحصر: «مبارك»، و»القذافي»، و»الأسد» و»بن علي». ومن الغباء الاعتقاد أن الزعماء والقادة الذين لم تظهر أسماؤهم بريئون.. فهناك مئات العملاء لشركة «فونسيكا» لم تعلن أسماءهم بعد، وهناك عشرات الشركات الأخرى التي تقوم بنشاطات مماثلة، ولكنها لم تُكتشف حتى الآن.
ومن الغباء أيضا الاعتقاد بأن ورود اسم «إياد علاوي» مثلا في الوثائق المسربة، يعني أن «المالكي» شريف. أو ورود اسم «بوتين»، يعني أن الرؤساء الأميركان بريئون. أو بسبب ورود اسم «رامي مخلوف»، يعني تنزيه المعارضة السورية، أو ورود اسم «ميسي» يعني أن لاعبي «ريال مدريد» جميعهم ملتزمون بالقانون، أو ورود اسم «أميت باتشان» يعني أن أثرياء هوليود لا يتهربون من الضرائب..
ومن الخطأ أيضا، ربط الفساد بالعرب فقط، فقد برهنت الفضيحة أن الفساد مشكلة عالمية؛ في إسرائيل مثلا هناك 600 شركة و850 إسرائيليًا متورطون في الفضيحة. وأيضا هناك قادة أجانب، مثل: رئيس الوزراء الباكستاني «نواز شريف»، ورئيس أوكرانيا، ورئيس وزراء أيسلندا، ووالد رئيس الوزراء البريطاني «ديفيد كاميرون». بالإضافة لمشاهير ورياضيين مثل «بلاتيني» وأعضاء من «الفيفا»، فضلا عن زعماء عصابات ومافيات دولية وتجار مخدرات..
ولا توجد تقديرات دقيقة لحجم الأموال المهربة، ولكن التحقيق يتحدث عن مئات المليارات من الدولارات التي تم تمريرها بطرق ملتوية، «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الأوروبية» قدرت حجم الأموال المهربة إلى «الملاذات الضريبية» بحوالي 10 ترليونات دولار. وبحسب التحقيق، لم تنجُ أيَّة دولة عربية من تهريب الأموال إلى الخارج بطرق غير شرعية؛ فهُرِّب من مصر حوالي 40 مليار دولار، ومن العراق 105 مليارات دولار، ومن السعودية 29 مليار دولار، ومن سورية 48 مليار دولار.
وسلطت «أوراق بنما» الضوء على ملف التهرب الضريبي والفساد المالي على مستوى العالم. فمثلا، أظهر بحث نشرته مجموعة «النزاهة المالية العالمية» أن تهريب الأموال إلى الخارج قد كلَّف الدول النامية 7.8 تريليون دولار بين عامي 2004 و2013.
هذه الأموال كان من المفترض أن توظف في مشاريع التنمية والخدمات العامة، وكان بوسعها حل مشكلة الفقر والمرض والأمية في العالم. ما يعني أننا أمام جريمة كبرى ضد الإنسانية.
من ناحية ثانية، أكدت «أوراق بنما» أن الغرب وشركاته وبنوكه لم تعد ملاذا آمنا للمليارات المهربة، وأن الحليف الأميركي الذي غالبا ما يقف خلف هذه التسريبات، لا يمكن الوثوق به. وأنه ربما ينتهي قريبا عهد السرية المالية والتمويلية.
ومع ذلك، ورغم أهميتها، من الممكن أن تكون التسريبات هجوما على بنما، بسبب مقدرتها التنافسية العالية على جذب الشركات والبنوك العالمية (أكثر من 10.000 بنك عالمي)، وهذا أمر لا يروق لبعض الدول المنافسة. ومن الممكن أن يتم استخدام الأوراق في بث إشاعات، أو النيل من سمعة قادة وشخصيات معينة، ضمن تصفيات سياسية، حيث يصعب التحقق من ذلك، ويكفي ورود اسم ما ليرتبط مباشرة بالفضيحة.
لذلك، من الضروري البدء فورا بإجراء تحقيقات جادة لكل من ورد اسمه في التحقيق، ولا يكفي أن يقوم من ورد اسمه في الفضيحة بنفي ذلك بتصريحات صحافية، فما من أحد سيعترف بأنه نهب بلاده.