هل غاب العقل النقدى من فكرنا الإسلامى؟ ..............حسن حنفي

thumbgen (18)
حجم الخط
 

سرت الشائعات بغياب العقل النقدى من تراثنا الإسلامى القديم، فى المقابل حضوره فى التراث الغربى فى النقد التاريخى للكتب المقدسة. وهو ما يدفع العلمانيين إلى الهجوم على التراث الإسلامى وثنائه على التراث الغربى. ويظل التراث الغربى له نقطة على التراث الإسلامى الذى لم يصل فى اجتهاداته إلى ما وصل إليه التراث الغربى.

وهو موقف غير علمى ناتج عن نظرة إقلالية للأنا مقابل نظرة تعظيمية للغرب. كما أنه حكم عام. فهناك عقل إيمانى وظيفته تبرير الإيمان وتحكيم العقل فيه بناء على أَفَلا تَعْقِلُونَ، أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ. وهو ما يوجد فى كل الديانات فى جدل العقل والإيمان «أؤمن كى أعقل» أو «أعقل كى أؤمن» الشهير فى العصر الوسيط. والإيمان بلا عقل قد يتحول إلى اعتقاد. والاعتقاد حكم مسبق لا دليل عليه. بل إن الأنبياء أنفسهم طالبوا البرهان قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِى . وتحرى صدق الإيمان لا يكون إلا بالعقل قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. كانت وظيفة العقل الدفاع عن الإيمان ضد مهاجميه. هو العقل الجدلى الذى يسبق العقل النقدى. وكان موجها نحو الخارج ضد المهاجمين للداخل. كان أشبه بوزير الدفاع أو الخارجية لحماية الحدود الثقافية للبلاد. ومن هنا جاء الدفاع عن الإسلام عند منتقديه من المستشرقين. فلما استتب الأمر تحول العقل إلى الداخل لوضع جذوره وتأسيس الأسس فى مقابل المنهج النقلى عند الفقهاء والمنهج الذوقى عند الصوفية. وقدم المعتزلة العقل على النقل. فالعقل أساس النقل باستثناء العلوم النقلية الخمسة: القرآن، والحديث، والتفسير، والسيرة، والفقه، وهو ما حاولته أحد المشاريع الفكرية المعاصرة لولا مؤامرة الصمت حولها. فهى مازالت علوما مقدسة لا يمكن أن تخضع للدراسة باستثناء أحد المشاريع الكبرى المعاصرة مثل «التراث والتجديد»، الذى حاول إعادة بناء العلوم المقدسة بناء على ظروف العصر وحاجاته. وفى مقابل المنهج الذوقى عند الصوفية الذى يعادل المنهج الحدسى عند المحدثين الذى يعتمد على الذوق أى التجربة الروحية المباشرة. وفى مقابل المنهج النصى الحرفى الذى يعتمد على مجرد اللغة، كما هو الحال عند الفقهاء القدماء والسلفيين الحدثيين. ومع ذلك لم يستغن النقل عن العقل حتى عند كبار السلفيين مثل ابن تيمية فى «موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول» وفى «درء تعارض العقل والنقل». وقد بدأ العقل التاريخى فى الظهور نقلا عن القدماء فى «الرد الصريح على من بدل دين المسيح». وصحيح أن ابن تيمية رد على المناطقة فى «نقض المنطق» و«الرد على المنطقيين» ولكن ليضع منطقا أوسع رؤية يضم التجربة إلى العقل كما يفعل الأصوليون، ويضع مجموعة من الأقيسة الجديدة مثل «قياس الأولى». إذا كان الخلق ممكنا، الخلق من عدم، فالأولى أن يكون البعث أكثر إمكانا، الخلق من شىء.

وقد ظهر العقل النقدى بوضوح أكثر فى علم مصطلح الحديث الذى يقوم العقل فيه بوضع قوانين عامة لضبط صحة الرواية وأهمها التواتر. تكون الرواية صحيحة إذا توافرت فيها أربعة شروط، الأول تعدد الرواة، ونقل الرواية من جهات متعددة. إذ يستحيل الكذب على الكثرة مثل «إنما الأعمال بالنيات». والثانى، استقلال الرواة عن بعضهم البعض، إذ يستحيل التواطؤ على الكذب من هذه الكثرة. ولم يقابل أحدهم الآخر فى المكان ولا فى الزمان. والثالث، تجانس انتشار الرواية فى الزمان، فدرجة انتشارها فى الجيل الأول تعادل درجة انتشارها فى الأجيال التالية، الثانى والثالث والرابع، وهو ما يعادل القرن الثانى أو الثالث الذى جمع فيه البخارى أحاديثه حتى يمتنع الكذب فى أحد الأجيال إما بالتواطؤ على الوضع أى الزيادة ونسبة حديث إلى الرسول لم يقله أو على الإخفاء، وهو عدم ذكر أى حديث قاله الرسول، ولكن فيه معارضة للمصالح التى ترويها. والرابع، الإخبار عن حس مما يستبعد كل الروايات المحملة بخيالات اليوم الآخر ابتداء من عذاب القبر ونعيمه حتى نتيجة الحساب فى الجنة أو النار. ولا حرج فى استبعاد روايات الإسراء والمعراج وتفصيلاتها فى أحاديث الرسول مع الأنبياء فى السماوات السبعة وشكل البراق، طوله وعرضه وأجنحته وألوان ريشه وبريق عينيه، لأن لا أحد قد شاهد هذه المرويات حتى يتم التطابق بينهما. وإن لم يحقق الخبر هذه الشروط الأربعة فإنه لا يكون متواترا بل أحاد. والتواتر يعطى اليقين، والأحاد الظن. صحيح أن القدماء ركزوا على نقد السند أى الرواية وليس نقد المتن، ولكن العيب على المحدثين الذين لم يطوروا هذا العلم أو الانتقال من نقد السند إلى نقد المتن.

ويكفى القدرة على صياغة المصطلحات التاريخية مثل المقطوع والمرسل والموضوع. وهو ما حاوله المحدثون فى الغرب مثل لانجلوا وسينوبوس فى «مقدمة فى العلوم التاريخية» فى نقد السند «نقد المصادر»، ونقد المتن «نقد النص». وتوسيع النقد التاريخى من الرواية الشفاهية كما هو الحال عند العرب إلى الرواية المدونة فى النقد التاريخى للكتب المقدسة. ولم يتهم أى منهم بالكفر، لأن البحث العلمى التاريخى لا إيمان فيه ولا كفر. وأنشأ الأب لاجرانج مدرسة القدس فى نقد الكتاب المقدس للبحث عن التطابق بين النص وما يتضمنه من إحالات إلى الواقع الجغرافى من أجل إثبات صحة الكتاب من عدمها.

ولا يعنى بالضرورة النقد التاريخى فهناك التحليل اللغوى للنص، والذى يقوم أحيانا مقام النقد، فالوحى لغته عربية. واللغة بها ظاهر ومؤول، محكم ومتشابه، حقيقة ومجاز، مجمل ومبين، وكلها تسمح للنص بأن يخرج عن الحرفية بل إن اللغة نفسها تصوير بالمجاز قبل أن تكون تعبيرا بالحقيقة. اللغة كلها تصوير لواقع مشاهد يحيله إلى خيال أو تصوير لخيال فيحوله الحرفيون إلى واقع مثل كل روايات المعاد والروايات التى لا تتوافر فيها شروطه الأربعة خاصة الرابع وهو الإخبار عن حس ومشاهدة ورؤية عينية.

ويتجلى العقل النقدى أكثر فأكثر فى القياس الأصولى، فالقياس أو الاجتهاد هو المصدر الرابع للتشريع بعد الكتاب والسنة والإجماع. وله أسماء كثيرة مثل «ما رآه المسلمون حسن فهو عند الله حسن»، «لا ضرر ولا ضرار». ولا يعنى العقل النقدى الرفض بالضرورة بل يعنى هنا إعادة البناء.

وتعريف القياس هو «تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع لتشابه بينهما فى العلة. يقوم العقل الاستنباطى عن طريق تحليل اللغة باستخراج علة الحكم من الأصل أى من النص. ثم يقوم العقل التجريبى بمعرفة العلة التجريبية حتى تتشابه العلتان فتأخذان نفس الحكم أو تختلفان، فتختلفان فى الحكم. وهذا هو العقل الاستنباطى الاستقرائى الذى تحدث عنه جون استيوارت من عشرة آلاف عام فيما بعد ويزهو به الغربيون بأنه اكتشاف للمنطق التجريبى وبالتالى إكمال المنطق الأرسطى.

وبدأ المستشرقون يتحدثون عن النقد التاريخى للكتاب المقدس ويعنون به مصحف عثمان والطريقة التى اتبعها فى جمع آيات القرآن. هل هناك ضمان مطلق فى أن ما جمعه هو المصحف؟ ألا يمكن تطبيق قواعد النقد التاريخى من أجل إعادة توثيق المصحف؟ فالوحى تاريخ ولا حرج من تطبيق قواعد المنهج التاريخى على وثيقة تاريخية.

إن ما فعله طه حسين فى «فى الشعر الجاهلى» هو تطبيق للمنهج التاريخى الذى كان سائدا فى فرنسا فى النصف الأول من القرن الماضى. والآن يكفينا تطور علم مصطلح الحديث لإثبات أن فكرنا الإسلامى لم يخل من العقل النقدى.