هل تنهار الهدنة الهشة في غزة؟!

1922111342527348
حجم الخط

مضت عدة أشهر على تصاعد الأحداث في الضفة الغربية بما فيها القدس المحتلة، والتي أطلق عليها كثيرون مصطلح «الهبّة»، فيما أصرّت القوى الإسلامية (حماس والجهاد) على اعتبارها الانتفاضة الثالثة. ربما كان التفسير المنطقي لتسميتها بالهبّة هو اختلاف طبيعة الأحداث فيها، فلا بعد جماهيرياً لها، بمعنى أنها لم تُسيّر مسيرات جماهيرية، ولم تكن هناك مشاركة حاشدة فيها من فئات الشعب كلها (أطفال، شباب، شيوخ، نساء، ...)، بل إن الأحداث جاءت في غالبيتها المطلقة فردية عفوية، أساسها البعد الوطني والتأثر بالاعتداءات الإسرائيلية التي تطال كل شيء. هذا الشكل الفريد من المواجهة، أزعج الجانب الإسرائيلي، بل في كثير من تصريحات قادته الأمنيين أو السياسيين لاحظنا مدى الإحباط؛ لأن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية وجدت نفسها عاجزةً أمام هذه المواجهة، وغير قادرة على اختراق ساحة هذه الهبة. وكل ما هو مطلوب منها انتظار وقوع العملية التالية حتى تمعن في استهداف عائلة منفذها... وبالتالي تأكد الجانب الأمني الإسرائيلي أنه لا يمكن وقف هذه الأحداث؛ لذا لجأ إلى محاولة الحدّ من نتائجها من خلال تكثيف إجراءاته الأمنية في مفترقات الطرق وتجمعات المستوطنين... ولهذا لاحظنا تغيير الإجراءات الأمنية الإسرائيلية في نقاط حساسة كانت أهدافاً متواصلة للمهاجمين الفلسطينيين سواء في منطقة الحرم الإبراهيمي وبؤر الاستيطان في البلدة القديمة من الخليل، أو في مفترق «عتصيون»، جنوب بيت لحم، أو في البلدة القديمة من القدس، أو مفترق حوارة جنوب نابلس، وبعض النقاط المشابهة في الضفة الغربية وحتى داخل إسرائيل. أعاد الاحتلال فكرة جعل الحياة اليومية صعبة على الفلسطينيين والعودة إلى إجراءات قديمة مثل هدم المنازل وإغلاق مداخل التجمعات السكانية، ومنع السفر، وعقوبات جماعية أخرى، لعلّ ذلك يؤدي إلى الحدّ أو وقف هذه العمليات. مما لا شكّ فيه أن الهجمات كموج البحر تراوحت بين مد وجزر، أيام تتصاعد فيه الهجمات، وأيام يسودها هدوء تام... حتى بدأت تظهر قناعة إسرائيلية جديدة بأن الأحداث في طريقها إلى الانطفاء، وهذا ما تناقلته وسائل الإعلام الإسرائيلية على شكل تصريحات لكثير من المسؤولين الإسرائيليين بأن الأحداث بدأت بالتراجع الحاد على أمل أن تتوقف بشكل كامل. كان انزعاج قادة الأمن الإسرائيليون من شكل المواجهات الجديدة التي كما قلنا لم تمنحهم هامشاً كبيراً للمناورة، بعكس الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى) التي كان اللاعب الأساسي فيها التنظيمات والقوى الفلسطينية الكبرى، ما أتاح للجانب الإسرائيلي مساحة أكثر من واسعة لمتابعة الأحداث والقرارات والمسؤولين عنها بشكل أساسي، لإحداث مجموعة من الاختراقات نتج عنها اغتيال عشرات المناضلين الفلسطينيين. وعندما مارست إسرائيل سياسة العقاب الجماعي، كانت دائماً تدّعي أن القيادة الفلسطينية العليا هي التي تحرك الأحداث، وتصدر الأوامر والتعليمات، تمول وتسلح، أيضاً... ولهذا كان حجم الانتقام كبيراً، وخاصة خلال اجتياحات العام 2002، عندما عاثت دبابات الاحتلال وجرافاته في البنى التحتية الفلسطينية، ودمرت كل ما وقع في طريقها بشكل متعمد، فلم تبق طريقاً حديثة إلاّ جرفتها ولا أشجاراً إلاّ واقتلعتها، ولا سيارات على جوانب الشوارع إلاّ دمرتها، إضافة إلى تدمير مقار السلطة في المدن الرئيسة، من أجل كسر هيبة السلطة الوطنية، وإظهار ضعفها أمام الجمهور. في الهبّة كان الكل يتحدث بشكل واضح، يجب ألا ننزلق إلى حُفر الانتفاضة الثانية، وألا نعطي مبرراً لسلطات الاحتلال لأن تدمر وتخرب تحت مسمى وقف الإرهاب. ولقد نجحنا إلى حد كبير في هذا المجال. التطور الوحيد المخالف لقواعد اللعبة السابقة هو محاولات إعادة دائرة تفجير الحافلات أو العودة إلى نهج العمليات التفجيرية الكبيرة، ولكن تحت إطار تنظيمي كبير وليس فردياً. وأبرز مثال على ذلك حادثة تفجير الحافلة الإسرائيلية جنوب القدس، والتي استشهد فيها منفذ العملية التي تبنتها حركة «حماس». قد يبدو للبعض أن هذا الأمر مرّ، وأنه يمكن العودة إلى مربع التفجيرات كما كان عليه الوضع منذ العام 1994 ـ 2001 تقريباً والذي أطاح بشكل ممنهج بالأفق السياسي وأدى بشكل غير مباشر إلى صعود اليمين الإسرائيلي وانحراف المجتمع الإسرائيلي إلى العنصرية بكل مفاهيمها. هناك فرق بين أن تبقى المقاومة ذات توجه فردي نشط وبين تغيير أسس «اللعب» التي ربما سيكون أكثر المتأثرين سلباً بها قطاع غزة. في قطاع غزة، هناك هدنة هشة، وهناك مصلحة إسرائيلية وحمساوية لإبقاء الوضع على ما هو عليه، فلا رغبة لإسرائيل بتكرار عدوانها السابق قريباً، ولا حماس راغبة في مواجهة جديدة في ظل حصار خانق وأوضاع عربية وإقليمية في غاية السوء. ربما يقول البعض إن هناك رغبة لدى حماس وبعض القوى من أجل تثوير الضفة لتخفيف الضغط عن القطاع وبشكل خاص عن حماس وإضعاف السلطة الفلسطينية... هذا رأي لا يعدو كونه وصفةً لزجّ القطاع في حرب جديدة ليس إلاّ...