«عالِم الآثار مشغولٌ بتحليل الحجارة/ إنه يبحثُ عن عينيه في ردم الأساطير/ ليثبتَ أني/ عابرٌ في الدرب/ لا عينين لي لا حرفَ في سِفر الحضارة/ وأنا أزرعُ أشجاري على مهلي/ وعن حبي أغني» محمود درويش في ظل تجنيد دولة الكيان الصهيوني، علماء آثار من دول مختلفة، قديماً وحديثاً؛ من أجل إجراء حفريات أثرية في القدس، في البلدة القديمة، وحول وتحت المسجد الأقصى، في محاولة للتنقيب عن آثار مملكة يهودية قديمة؛ يبرز سؤال ملحّ: هل أسباب التنقيب علمية خالصة كما تدَّعي؟ ومن الذي يموِّل هذه الحفريات؟ وإذا كانت الأسباب علمية حقاً؛ لماذا تستعين سلطة الآثار، في حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بالجمعية اليمينية الاستيطانية: إلعاد؛ من أجل التمويل، ومن أجل إدارة الحفريات الأثرية المهمة بالنسبة لهم؟ الجمعية التي تدير نفقاً سرياً تحت ساحة البراق في المسجد الأقصى، - استناداً إلى ما كشفته صحيفة هآرتس العبرية -، وتعمل علنياً على تهويد مدينة القدس، وتهجير الفلسطينيين، بحيث تضيق الحلقة على السكان العرب رويداً رويداً؛ الحفريات تهدد أسس بيوتهم، وتعمل على انهيارها؛ ما يضطرهم للرحيل، لأن سلطات الاحتلال لا تعطي الفلسطينيين إجازات بناء. أليس جلياً أن الهدف سياسي بامتياز؟ دعم شرعية الوجود أساساً واغتصاب أرض فلسطين العام 1948، ودعم شرعية الاحتلال وسرقة الأرض، العام 1967. ***** وإذا كان علم الآثار الإسرائيلي يحاول جاهداً فرض الرواية الصهيونية، فماذا عن علم الآثار الفلسطيني، ودوره في تثبيت الرواية الفلسطينية؟ هل يمكن إعادة كتابة التاريخ الفلسطيني، من منظور تاريخي نقدي شامل، في ظل الاستعمار الاستيطاني، وممارساته القمعية على أرض فلسطين، ومحاولته محو الذاكرة وتزوير التاريخ وطمس الهوية؟ وهل يمكن إنتاج نصوص تاريخية نقدية تقوم على الأدلة، منذ عصور ما قبل التاريخ حتى الوقت الحاضر، بالانطلاق من تطور المناهج، ومكتشفات علماء الآثار والتاريخ، منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين؟ ثم، هل يمكن كتابة التاريخ، بالاستعانة برواية من ساهموا في صناعة التاريخ؛ لكنهم أقصوا عن كتابة التاريخ؟ ***** امتد الحوار، واتسعت حلقة النقاش، حول مشروع كتابة منهاج التاريخ الفلسطيني والتراث (الذي بدأ منذ العام 2013)، بين مجموعة من علماء الآثار، والمؤرخين، والباحثين/ات، من جامعات في فلسطين، وفي إنجلترا، وفي الدنمارك، بالإضافة إلى باحثات وباحثين مستقلين، من مختلف أنحاء العالم، ضمن المؤتمر الثالث وورشة العمل، التي نظمت في كوبنهاجن/ كلية اللاهوت والدين، بتاريخ: 11-13 نيسان 2016، بعنوان: مشروع منهاج التاريخ الفلسطيني والتراث. هذا المشروع البحثي الدولي، متعدد الحقول، والذي يؤمن أن التراث الثقافي الفلسطيني جزء لا يتجزأ من التراث الإنساني؛ «يهدف إلى إنتاج نصوص تاريخية نقدية، من خلال منظور تاريخي، يتجنب التركيز على الإثنية، في جهد شامل لوصف التعقيد، والتعدد الثقافي، والديانة والتقاليد الإثنية واللغوية التي تنعكس داخل تاريخ فلسطين الطويل. كما يهدف إلى تسجيل جغرافيا الإقليم ومواقعه وتاريخه وثقافته وحفظ ذلك للمستقبل. وقد أصبح ذلك ملحاً؛ لأن التغييرات التي استحدثت منذ تأسيس دولة إسرائيل، قامت بسرعة باستبدال التراث الفلسطيني، سواء أكان يهودياً، أو سامرياً أو مسيحياً أو درزياً أو إسلامياً أو علمانياً. إن إعادة تقييم تاريخ الإقليم وثقافته، غير مستندة إلى التوراة، وتقوم على التطورات الآثارية والإثنوغرافية والأنثروبولوجبة الأخيرة، ستكون دليلاً دائماً لفهم تراث الإقليم. ويستند المنهج المعتمد إلى مزيج من المقاربة التاريخية الكلاسيكية والنظريات الأنثروبولوجية حول المشاهد الطبيعية كمشاهد للذاكرة والتراث. هذه المقاربة تحلّ شفرة التغيرات الجغرافية والديمغرافية والثقافية في صلتها بخصائص صراعات الاستعمار الاستيطاني وممارساته القمعية ضد البحث عن حل وسط من أجل فائدة مشتركة في التلاقي والتفاوض والتعايش بين الأطراف. جدوى استخدام هذه المناهج هي أنها تتعامل مع واقع معقد من خلال مقاربة دينامية جدلية، بدلا من استخدام بحث نموذجي عن رواية تاريخية بسيطة، كما في الكتابة التقليدية للتاريخ. وبسبب كونها منطقة حدود وجزءاً من الهوية الدينية لثلثي سكان العالم، فإن تاريخ فلسطين هو حاضنة حارة للفرضيات والأيديولوجيات، التي غالبا ما تنتهي إلى تواريخ مشوَّهة للمنطقة». ***** تنوَّعت أوراق المؤتمر، بين التاريخ القديم والمعاصر، ضمن مناهج بحث متعددة، - منها ما استعان بالبحث الميداني، ومنها ما استند إلى الأرشيفات القديمة، ومنها ما استند إلى التاريخ الشفوي والذاكرة الجماعية -؛ ساهمت، في تفكيك بعض العناصر التي تعتمد عليها الرواية الصهيونية، والكتابات البحثية الإسرائيلية والصهيونية، بالاستناد إلى التوراة، منها ما هو جلي، ومنها ما هو خفي، في محاولة لوضع أسس لكتابة رواية فلسطينية بديلة للاستعمار الثقافي، بعيداً عن التعصب الديني، والإثني، من أجل إنتاج تاريخ شامل، عن الفلسطينيين جميعاً، ولهم، يعكس التراث الثقافي لكل من عاشوا في الإقليم. ***** في مواجهة خلق وقائع جديدة على الأرض، ورسم خريطة جديدة، لفلسطين ككل، وللقدس بشكل خاص؛ وفي مواجهة استخدام الرواية الصهيونية كأداة للتطهير العرقي والاستعمار؛ يصبح مشروع كتابة التاريخ الشامل لفلسطين، ضرورة ملحة، كأداة للمقاومة والحرية.
صور : الإضراب الشامل يعم الضفة تنديدا باغتيال العاروري
03 يناير 2024