تعود المبادرة الفرنسية للسلام في الشرق الأوسط للواجهة مرة أخرى، في إطار تصميم فرنسا على طرحها في اجتماع وزراء الخارجية، الذي دعت إليه الحكومة الفرنسية، والذي من المفروض أن يعقد في باريس في 30 من أيار القادم، والذي يحضره وزراء خارجية عشرين دولة، ويضم الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة بالإضافة إلى روسيا والولايات المتحدة ودول عربية، ودون أن تحضره فلسطين وإسرائيل. والهدف من هذا اللقاء كما قال وزير الخارجية الفرنسي جان مارك إيروليت خلق ائتلاف دولي واسع لحل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي على أساس أفكار المبادرة الفرنسية، التي تنص على عقد مؤتمر دولي للسلام لتطبيق حل الدولتين على قاعدة حدود العام 1967 والقدس عاصمة للدولتين، وعلى أن تبدأ مفاوضات مباشرة فلسطينية- إسرائيلية، تستمر لمدة عامين كحد أقصى، وتكون تحت رعاية مجموعة دولية تضم دولاً عربية والاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء في مجلس الأمن. ومنذ أن طرحت فرنسا مبادرتها حصل توتر في العلاقات مع الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو والتي ترى في أي محاولة دولية للتدخل في الصراع تهديداً لمصالحها ولسياساتها القائمة على إدارة الصراع وخلق وقائع على الأرض تحول دون التوصل إلى حل الدولتين المقبول دولياً، بل إن إسرائيل تتهم فرنسا بأنها تقف وراء مبادرة الاتحاد الأوروبي بشأن وضع علامات مميزة لمنتجات المستوطنات. والسفير الفرنسي في إسرائيل بتريك ميزونب ووزيرا خارجية فرنسا السابق لوران فابيوس والحالي انتقدوا بشدة السياسة الإسرائيلية القائمة على الاستيطان واعتبروها العقبة أمام التوصل لتسوية سياسية للصراع. وذهب وزير الخارجية إيروليت إلى أبعد من ذلك عندما قال: إن البديل للمبادرة الفرنسية هو اختيار مصير الحرب، أي أن إسرائيل إذا رفضت المبادرة فهي ترفض السلام وتختار استمرار الصراع والمواجهة. وإذا كانت إسرائيل ترفض المبادرة لكونها تقوم على أساس حدود 1967 التي ترفض الاحتكام لها، ولأنها تدخل العامل الدولي في الحل، وهو ما لا ترغب في وجوده لأنه يخلق نوعاً من توازن القوى بين جانبي الصراع، فللجانب الفلسطيني تحفظات كذلك منها أن المبادرة تشير إلى الاعتراف بإسرائيل كوطن قومي للشعب اليهودي. ولكن التحفظات الفلسطينية لا تصل إلى مستوى رفض المبادرة أو عدم التحمس لها خصوصاً وأنها المبادرة الوحيدة القائمة في الفراغ السياسي الراهن، وأنها تستند إلى المبادرة العربية للسلام التي تجمع عليها الدول العربية والإسلامية. وهناك في الواقع لجنة عربية خماسية مهمتها متابعة المبادرة مع فرنسا والأطراف الدولية الأخرى. حسنات أو ثغرات المبادرة الفرنسية لا تفيد في قدراتها على إحداث الاختراق السياسي المنشود، فالنجاح مرتبط بمجموعة من العوامل منها وجود إرادة دولية حقيقة لإنهاء ملف الصراع بما في ذلك موقف أوروبي موحد من المبادرة، وموقف أميركي داعم ومتحمس ومشاركة فاعلة من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن بمن فيهم الروس، ووجود دعم عربي حقيقي يصل إلى مستوى ربط مستقبل علاقات الدول العربية مع المجموعات الدولية على أساس التقدم في حل الصراع، وأخيراً وجود وضع فلسطيني داخلي مشجع، ورغبة إسرائيلية أو على الأقل إدراك إسرائيل بأن إفشال المبادرة سيترتب عليه ثمن تدفعه إسرائيل في النهاية. ولو نظرنا إلى هذه العوامل سنجد أنها غير متوفرة، فلا يوجد إجماع أوروبي، حتى في مسألة وضع علامات على منتجات المستوطنات هناك دول تمردت على قرار الاتحاد ورفضت تنفيذه، مع أنه يمثل خطوة رمزية، فما بالنا بموقف سياسي جدي تتبناه أوروبا وتقنع العالم بتبنيه، والولايات المتحدة تتحفظ على أي مبادرة لا تأتي منها أو بالتوافق معها، وآخر ما ترغب فيه هو الضغط على إسرائيل ودفعها لقبول فكرة الحل الدولي، كما أنها لا ترغب في دخول روسيا على خط الصراع من جديد، فالملف الفلسطيني- الإسرائيلي هو حكر عليها وهو ليس كالملف السوري مثلاً، فالقبول بدور روسي مفروض من واقع الميدان والتدخل الروسي الفعلي لصالح النظام والنجاح في تثبيت أقدامه على الأرض. والموقف العربي هزيل وأضعف من أن يشكل عاملاً ضاغطاً على الأطراف الدولية، بل إن سياسات بعض الدول العربية تذهب باتجاه علاقات مفتوحة مع إسرائيل على حساب القضية الفلسطينية. أما إسرائيل فموقفها واضح ومعلن من المبادرة الفرنسية، وفي هذا السياق يقول نتنياهو: إن «الحديث عن مبادرة سياسية يبدو لا طائل منه» في ظل توسيع علاقات إسرائيل مع الدول العربية، وهو يؤمن أنه «بواسطة العلاقات الإقليمية هذه بالإمكان إحراز تقدم في المحور الفلسطيني أيضاً، ولكن سيكون الأمر صعباً جداً بترتيب معاكس». بقي الوضع الفلسطيني، فهل هو ناضج لاستقبال تسوية أو حل للصراع؟ بصراحة نحن لسنا مستعدين لهذا التطور، ليس لأن الشعب الفلسطيني يرفض الفكرة أو أن موقفه السياسي متشدد، أو لوجود تيار يعيق التوصل إلى تسوية، بل إن العكس صحيح، فحال القوى السياسية المختلفة متشابه ومن كان في الماضي يزايد أصبح يقبل بأقل من المعتدلين المتهمين بالتنازل والتفريط، والمشكلة تكمن في الوضع الداخلي بدءاً من الانقسام ومروراً بتدهور الإدارة الداخلية والنموذج الذي نقدمه للعالم. وقد يقول قائل: ما دخل وضعنا الداخلي في حقوقنا وفي القرار الدولي بإنهاء الصراع؟ وهنا نعود إلى ما يمكن أن يؤثر على القرار الدولي فعندما نقدم نموذجاً جيداً يثبت قدرتنا على ترتيب أوضاعنا وإدارة أمورنا بشكل جيد وفعال تزداد الرغبة والإرادة الدوليتين في مساعدتنا والحماسة هنا مهمة لرؤية مخرجات إيجابية متوقعة وليس احتمالات من بينها احتمال الفوضى. ومع انسداد الأفق وكل ما تقدم، لا نملك سوى دعم المبادرة وفعل كل ما يلزم لإنجاحها، فالخيارات محدودة، فحتى لو فشلت لتتحمل إسرائيل فشلها. وكل هذا لا يغني عن ضرورة تحمل المسؤولية الوطنية عن سوء أحوالنا وعن استمرار الانقسام ولنكف عن الحديث عن ضرورة إنهاء الانقسام ونذهب إلى خطوة عملية واحدة في هذا الطريق حتى نحترم أنفسنا ويحترمنا العالم.