«آسنتي سانا» هي تتمتم، أي شكراً جزيلاً بالسواحلية، تنويع رقيق وأليف على الأصل العربي: «أحسنت صنعاً». ترنمها هذه اليافعة السواحلية غامضة الجمال وسليلة التواريخ الخليطة على شاطئ المدينة التي نُحتت من حجر البحر، ستون تاون ـ Stone Town. ربما من أحسن صنعاً، أيتها الغامضة، ويستحق استلال الامتنان من عمق السنين هم أولئك اليعاربة الذين سربوا هذه الكلمات إلى موسيقى لغات الأجداد في هذه الجزيرة الوادعة على طول قرنين من الزمان. هذه الجزيرة مُدهشة ومنسية في آن معاً. المذاق العربي فيها كما التاريخ حاد الطعم في المبتدأ، لذيذ في الوسط، ومرير في النهايات. هنا جاء سلاطين عُمان وتحالفوا مع ملوك وملكات التوابل: الزعفران والهال، وامتدت وداعة الجزيرة عقوداً طويلة، تمتص لغاتها حروف العربية، ويحتفل تاريخها بتواصل المياه والشواطئ مع الخليج. في كل جهة من جهاتها البيضاوية المحروسة بزنار شاطئي من الجص الفريد تفتح زنجبار فصل إدهاش واندهاش. كامنةً كأنما تختبأ من الاكتشاف العام حتى لا تفيض عليها جمهرات السواح الذين ينتقصون من عفوية الأمكنة ويبعثرون سكونها وتآلفها مع الغموض واللامرئي. عموماً، هذه الزنجبار ليست وجهة سياحية لمن يجذبه صخب الشواطئ، ولمعان الأضواء والإبهار. إبهارها يكمن في العمق، بعيدا وراء المرئي. وفي السطح تبدو بسيطة، فقيرة، مُتعبة، ويرهقها الفقر. لكن ابتسامات ناسها وبساطتهم، وأطفالها الراكضين بنهم إلى مدارسهم على جنبات الشوارع الترابية أو الأسفلتية المثقوبة الضيقة، تحكي القصة العبقرية لناس عاديين لا تخفت حرارة ولعهم بالحياة. ما أن يعرف أولاد المدارس أو معلموهم أو أصحاب الحوانيت التي تبيع القمصان الملونة بزرافات الأرض السمراء. انك من بلاد العرب حتى تتسع الابتسامة. ليس في هذا مُبالغة أو تشاوف قومي، لكنه إحساس جميل يهبط عليك وينفض أتربة المرارة والامتعاض التي صارت تُلحق ببلادنا وهوياتها وعروباتها. فجأة تكتشف بقعة جميلة ومضيئة من التاريخ القريب يذكرها الناس بالحب. الغالبية الكاسحة التي تدينت بدين العرب وثقافتهم ترتدي زيهم (العُماني) ويحمل كثير منهم أسماء عائلات أصولها تعود إلى الجهة الشمالية القصوى للبحر ذاته. ظلت بقعة جميلة لم تتلوث بوطأة صور البشاعة والتبشيع التي طالت العرب والمسلمين وثقافاتهم وأديانهم. وفي الدين والتدين ذاته هناك اكثر من انطباع يُستل ويستحق التوقف عنده. انتشار الحجاب في طول وعرض الجزيرة وعلى امتداد فئات نسائها العمرية يخلق انطباعاً أولياً بأن جماعاتنا الإسلاموية وطأت ارض الجزيرة ووطأت عقول وتدين سكانها وحرفته نحو تدين متسلف متعال. لكن هذا الانطباع الفوري سرعان ما يتبدل عند الاحتكاك اكثر مع الناس، ليتكشف أن هذا التدين ظل على بساطته وعفويته التي لا تحمل أحكاماً ضد الآخرين ولا تتطاول على معتقداتهم. تدين الناس هنا يمشي مع الحياة ولا يناقضها ولا يفتح معارك ضارية ضدها لا هدف من ورائها. إنه الدين الأليف للجماعات والشعوب وما يوفره لها من طمأنينة روحية ومرجعية عليا وأمل غامض يعوض عن ألم الحياة المُعاشة ومراراتها. هذا ما لمسه ويلمسه سواح غربيون يأتون إلى الجزيرة فترتبك انطباعاتهم للوهلة الأولى، ثم ما تلبث أن تنعدل مع اكتشاف «إسلام» مختلف ومغاير للإسلام الذي يقرؤون عنه في إعلامهم ويتابعون ما يُنسب له من إرهاب ودمار هنا وهناك. هذا على الأقل ما قاله لي الألمانيان كريستيان وزوجته كريستين اللذان يتركان برلين كل سنة شهرين أو ثلاثة ليأتيا إلى زنجبار ويقيما فيها مع ابنهم الصغير. قالوا: نتمنى لو كان كل مسلمي برلين مثل هؤلاء المسلمين لما كان هناك أي مشكلة ولقضينا على أي عنصرية أو نازية جديدة في ألمانيا. هذا التدين الذي يطبع الناس هنا لكن لا يدفعهم نحو التطرف ظل مثيراً للفضول، ولاكتشاف حدوده. جرني الفضول إلى صلاة الجمعة في احد الجوامع الشعبية في قلب ستون تاون، العاصمة التاريخية للجزيرة. لم افهم كثيرا مما قاله الإمام في الخطبة لكن تابعت استشهاداته باللغة العربية سواء بالآيات أو الأحاديث أو بعض مقولات العلماء. كانت الخطبة عن الحياء في الإيمان، وعن فضائل الأخلاق المنبثقة من الحياء، أو هكذا فهمت على الأقل. مع نهاية الخطبة رفع الإمام ذراعيه وبدأ بالدعاء وكلي إنصات إلى تفاصيل ما سيقول، وكيف سيتعامل مع «الكافرين» و»الكفار» في الدعاء، وفي رأسي أدعية خطبائنا التي تنزل الويل والثبور على «الكفار» وتسأل الله أن يبيدهم وذرياتهم ولا يبقي لهم أثراً، وأحياناً غير قليلة يتم التنصيص على هؤلاء الكفار بكونهم «اليهود والنصارى»، سواء أكانوا مواطنين من أهل البلد أم من «الأعداء». الخطيب الزنجباري الذي ادهشني دعا للحضور والمسلمين بالأمن والسلام والسلامة في الدنيا والآخرة، وبقي خطابه الدعوي إيجابياً يدعو لصالح الناس ولا يسأل المصيبة ولا البلوى لأحد. وفي نهاية الدعاء دعا على «الظالمين» ولم يذكر «الكفار» أو «اليهود» أو «النصارى»، وهو دعاء بالغ الدقة وخال من إطلاق الأحكام، إذ ربما ينتسب الظالم لأي دين أو ملة أو جنسية، لا يهم. نهاية اليعاربة في زنجبار كانت مريرة ودامية، سنة 1964، إثر ثورة مسلحة تقول مرويات كثيرة: إن معظم مسلحيها جاؤوا من تانزانيا لإنهاء حكم العرب، وتحت ما يراه كثيرون تواطؤاً بريطانياً وسكوتاً عن المجازر التي رافقت تلك الثورة. صحيح أن أواخر حكم السلاطين لم تكن خالية من النقائص والمظالم، لكن عموم الأداء المقبول هو ما أسلم الجزيرة سلماً للحكم العربي العُماني قرنين من الزمان. تأتيك تلك النهاية وانت تنظر في رؤوس الشجر عندما تسلقها دليلنا برشاقة نمر ليقطف من على قمتها ثمر الجوز وهو يرنم أهازيج إفريقية سواحلية. متأملاً الزنجباري الرشيق وجزيرة الأميرة النائمة، كتبت خاتماً: يصعد كالريح على ساق الشجر الطويل الغائب رأسه في بطن السماء. لما يصل القمة يفتح صوته لأقصى الجهات، يرتل صلاة الغابات. يصل الكون مع نشيج الفرح الحزين. يا أمنا السوداء ها أنا ارتمي في قلبك الأبيض، وأشرب عصير الجوز كي أصير اخضرا كأرضك. من حد الماء إلى حد الماء في جزيرتك الأليفة منسوجة هي حكايا من مروا هنا. بصمات أقدامهم ما زالت على صفحة البحر. يحضنها فلا تغيب. تنحسر أمواجه إلى جوفه ويتعرى الشط جزْراً، فنرى السطور منقوشة على الشاطئ الغامض. تُسر لنا بعض رموز القصة الطويلة: هنا مروا، جاؤوا في قوارب «الدو» يبحثون عن سر قداسة الماء الأخضر. لفحتهم صحراء نزوى، فلحقوا نواخذهم باحثين عن الندى. جاؤوا هنا، وغرسوا مجاديف قواربهم في الرمل. ما كان بيدهم رماح، كانوا يحملون البخور وتراتيل الموج. عقدوا حلقات الرقص مع أهل الجزيرة، وذابوا فيها وفيهم. ظلوا يرقصون ويدورون عقوداً وراء عقود، صوفيون طالعون إلى التأبد، يذوبون مع أغاني الـ «هاكونا ماتاتا». انحلوا على بعضهم البعض فأقلع القرنفل عن التمييز بين القادم وأهل الشجر. صارت هناك «عجائب» وصار لها قصر. طافت قبعات القادمين من ساحل مسقط وظفار فوق رؤوس الأشجار وناسها، وغفت فوقها. ظلوا جميعاً ناشرين أذرعتهم مغزولة مع بعضها كشباك الصيد على امتداد المطر فوق جزيرة السحر. ظلوا كذلك إلى أن جاء جنود الملكة بالبارود. أشعلوا النار بالأخضر، أحرقوا المجاديف، دهنوا «الدو» بالدم، وقبروا الناس على امتداد الشط. يومها وقع البحر حزناً فامتد ماؤه سريعاً إلى الشط، لملم جزْره وركض يستر الجثث، ويرمي ماءه الحزين عليهم.