الحقيقة كما نراها

40f53dcf391d87104b028489e39f4e0e
حجم الخط

التصريحات المتواترة التي صدرت خلال الأسبوع الماضي عن كل فصائل المقاومة في قطاع غزة من حماس، إلى الجبهة الشعبية وما بينهما، وتنطوي لغوياً على تهديد بإمكانية انفجار الأوضاع في القطاع في حال استمر الحصار. هذه التصريحات، لم تحدث قلقاً لدى المواطنين في القطاع، الذين بالتأكيد لا يرغبون في تكرار تجارب العدوانات الإسرائيلية المدمرة. أنا ممن يصدقون تقديرات الرأي العام الفلسطيني الذي خبر من خلال تجربته الطويلة مع الاحتلال، متى يمكن أن تكفهر الأجواء لتنذر بعدوان جديد، ومتى يستبعدون ذلك. لا يتعلق أمر الرأي العام بثقة غير موجودة على الإطلاق بحسن نوايا الاحتلال، ذلك أنهم يدركون على نحو عميق وسليم، بأن طبيعة هذا الاحتلال، تجعل إمكانية المبادرة إلى عدوان آخر قائمة كل الوقت، لكن المسألة هذه المرة تتعلق بالتوقيت. ومثلما يثق الرأي العام الفلسطيني بحقيقة أن الاحتلال، لا يمكن أن يخالف طبيعته العدوانية فإنه يدرك، أيضاً، على نحو عميق أن فصائل المقاومة لا تفضل أن تكون السبب والبادئ في تفجير الأوضاع، أو تقديم الذرائع للاحتلال. لا علاقة لمسألة من يبدأ التفجير الاحتلال أم المقاومة بمدى جدية المقاومة إزاء الالتزام ببرنامجها ولا بحقيقة استعداداتها لأية مواجهة، لكن الأمر يتعلق بالأهداف التي تتوفر لهذا الطرف أو ذاك، وبتقدير الظروف المواتية أو المجافية والنتائج المترتبة على عملية التفجير. صحيح أن الأوضاع في القطاع صعبة إلى حدود قصوى بسبب الحصار المشدد المضروب على القطاع منذ فترة طويلة لكن تجربة العدوانات الثلاثة الواسعة السابقة لا تفيد بأن النتائج قد تنطوي على انفراج لسكان القطاع، وعلى أن الفلسطينيين يتكبدون خسائر ضخمة ولا يحصلون إلاّ على دمار فوق دمار.  الدمار الذي خلفته العدوانات السابقة لا يزال شاهداً حياً، لم تخفف منه مؤتمرات إعادة الإعمار التي رصدت مليارات الدولارات، ووضعت في يد إسرائيل قرار التصرف بشأنها. وبالرغم من التخصيصات الكبيرة التي تم رصدها لإعادة الإعمار بعد حرب 2008 ـ 2009، وحرب 2014، إلاّ أن الأمم المتحدة تواطأت مع إسرائيل من خلال ما يعرف بخطة سري، ما مكن إسرائيل من تعطيلها. إذاً من جانب المقاومة، فإن أمر رفع أو تخفيف الحصار، ينطلق من وسائل سياسية، خصوصاً أن ثمة ما يتحرك ومن يتحرك على هذه الجبهة، ونقصد الجبهة السياسية. إذاً فإن التصريحات التي تصدر عن المقاومة وتنطوي على تهديدات باحتمال انفجار الأوضاع، تذهب نحو تحفيز أطراف أخرى لكي تتحرك، أو تصعد حركتها نحو التوسط مع الجانب الإسرائيلي لتأمين صيغة أو اتفاق لتغيير واقع الحال. تغيير واقع الحال في قطاع غزة يمكن أن يأتي من طرفين، نتمنى أن يكون الطرف المصري هو المبادر إليها، حتى لا يثير الاتفاق مع الطرف الآخر وهو إسرائيل زوبعة كبيرة في الأوساط السياسية الفلسطينية، حتى إن كانت الرسائل التي تطلقها الفصائل لا تتعلق بإمكانية انفجار الأوضاع باتجاه الحدود المصرية، وهو أمر غير وارد بالمطلق فإن بداية التصحيح التي جرت في العلاقة بين مصر وحركة حماس ينبغي أن تؤتي أولى ثمارها بفتح معبر رفح، وإعادة تنشيط العلاقات التجارية والاقتصادية بين قطاع غزة ومصر. في أوقات سابقة كان هذا الأمر مستبعداً، لأن مصر كانت تصر على أن يكون قرار فتح معبر رفح، مرتبطا بالشرعية الفلسطينية، وبملف المصالحة غير أن مؤشرات العلاقة مع السلطة الوطنية، وهي مؤشرات سلبية ربما تؤدي إلى فك القيد المصري عن ضرورة الربط بين فتح المعبر ودور السلطة الشرعية وملف المصالحة المتعطل. بغض النظر وفي كل الأحوال، كان لا بدّ أن يتميز الموقف المصري من مسألة فتح المعبر، بفصل البعد الإنساني عن البعد السياسي، بحيث يسمح للناس بالتحرك من خلال المعبر بطريقة سلسة ودائمة وتشغيل الفلتر الأمني لممارسة مصر حقها في منع دخول من تعتقد أنه ينطوي على شبهة، الاخلال بأمن مصر ومصالحها. أما الطرف الثاني والأساسي الذي تتوجه إليه رسائل الفصائل، نحو الطرف الإسرائيلي، الذي يفرض حصاراً وعقاباً جماعياً على سكان القطاع منذ أكثر من تسع سنوات، لتحقيق أهداف سياسية ذات علاقة باستراتيجية الاحتلال إزاء القضية وحقوق الفلسطينيين. تريد إسرائيل من وراء حصارها المشدد وعدواناتها المستمرة والمحسوبة بالورقة والقلم على قطاع غزة، تأبيد حالة الانقسام الفلسطيني، فمن وجهة نظر السياسة الإسرائيلية ليس على الفلسطينيين أن يتوحدوا، وليس عليهم أن يفكروا بإقامة دولة على الأراضي المحتلة العام 1967، وان الدولة ممكنة فقط في قطاع غزة، الذي ينبغي أن يؤدي الحصار والعدوانات إلى تحفيز السكان للهجرة منه بأعداد كبيرة، بما يجعله أفضل لعدد أقل من سكانه الحاليين. من لا يرى هذه الحقيقة عليه أن يراجع تصريحات نتنياهو بالنسبة للجولان المحتل، وأن يدقق في المحاولات الجدية الجارية من قبل أطراف عديدة في اليمين الإسرائيلي التي تحضر لطرح مشروع قانون للكنيست يقضي بضم الضفة الغربية على نحو تدريجي وصولاً إلى ضم مناطق (ج) التي تقدر مساحتها بـ60% من مساحة الضفة. المسألة هنا تتعلق بجهد تركي قديم مدعوم قطرياً، وربما لا يجد معارضة في هذه الفترة من قبل السعودية ومصر، لبلورة اتفاق يقضي بهدنة طويلة مع الاحتلال، مقابل إنشاء ميناء كثر الحديث عنه وثمة تحضيرات له، وربما مطار جوي، ترشح الأمم المتحدة أن يكون تحت إشرافها، وقد تم تحضير الكروكي، وترشيح المكان بحيث يكون في منطقة المواصي غرب خان يونس ورفح. وعلى الطريق، قررت إسرائيل معاودة ضخ الإسمنت لقطاع غزة، هذا الأسبوع، فضلاً عن ما يقال عن اتفاق بين الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وإسرائيل، يسمح للمزارعين الفلسطينيين بالزراعة في الشريط الأمني شرق القطاع وشماله، على أن لا يكون بزراعة أشجار وتصدير المحاصيل للاتحاد الأوروبي. إذا كان إنشاء الميناء والمطار سيستغرق وقتاً لا يقل عن سنتين للتشغيل، فإن خطوات أخرى أو مؤشرات ملموسة ستقع بين اليوم والغد، نحو التخفيف التدريجي للحصار دون أن تتخلى إسرائيل عن أهدافها السياسية.