في سياق تصنيف الدول التي تأسست نتيجة اتفاق سايكس - بيكو، اعتبرت مراكز دراسات أميركية لبنان والعراق وأراضي الدولة الفلسطينية دولاً فاشلة، ولم تشر إلى سورية ربما لكونها آيلة إلى السقوط ومفتوحة على احتمالات شتى.
ولبنان، «الدولة الفاشلة»، يتصدّر مع اليمن قائمة الأكثر فساداً بين تسع دول عربية تضم أيضاً مصر والسودان والمغرب والجزائر وفلسطين والأردن وتونس. أصدرت القائمة «منظمة الشفافية الدولية» نتيجة دراسة مسحية، وأبدت في المناسبة مخاوف حيال لبنان مع أزمة شغور منصب الرئاسة الأولى وعدم إجراء انتخابات نيابية منذ سنة 2009.
فَقَدَ لبنان جاذبيته عربياً ودولياً، ومعظم المسؤولين الأجانب الذين يزورونه يهتمون فقط بالنازحين السوريين وبالأمن على حدود إسرائيل. مثل هذا الأمر كان يلقى احتجاجات أهل السلطة، لكنه صار عادياً، حتى أن سفراء أجانب يزورون شخصيات ومؤسسات وجمعيات مباشرة ومن دون استئذان وزارة الخارجية. هذا وغيره من الحراك السياسي الخارجي على الأراضي اللبنانية، يمكن اعتباره إشارة إلى تفكّك الدولة اللبنانية التي يستقطبها زعماء الطوائف والقوى الحزبية الرئيسية.
يكتفي الزعيم اللبناني بقاعدته الشعبية ويحافظ عليها لتحافظ عليه، كأنه يتزعّم كانتوناً وليس مسؤولاً عن المواطنين الآخرين خارج دائرته الطائفية أو الحزبية. بل إن الحيّز المشترك للقاءات بين اللبنانيين بدأ في الانهيار، إذ تندر شيئاً فشيئاً نواد أو مقاهٍ أو جمعيات أو هيئات سياسية تضم مواطنين متعدّدي الانتماء الطائفي، وبذلك تنمو ثقافات فرعية ذات عصب ديني أو طائفي أو جهوي على حساب الثقافة المشتركة التي جعلت من اللبنانيين روّاد التحديث منذ أوائل القرن العشرين، كما اشتهروا بميزتهم هذه في العالم العربي وأوروبا والولايات المتحدة، والآن تنقرض هذه الصورة الزاهية لمصلحة خطاب بائس ومتعصّب كان يوصف في الزمن الذهبي للبنان بأنه حماقة.
نشهد تحلُّل الدولة اللبنانية وهيئاتها السياسية والاجتماعية الجامعة، فيما يقف أهل السلطة شهوداً على انهيار شبه يومي يلاحظونه لكنهم يشيحون النظر مكتفين بعروش الجمر، يجلسون عليها في انتظار الحريق.
ولا يمكن أي عاقل أن يشرح هذا الهدوء وتلك الثقة لدى أهل السلطة في لبنان، خصوصاً أن سورية القريبة بسياساتها وحريقها سائرة إلى مصير ربما أسوأ من مصير فلسطين.
في سنة 1948 تناولت الصحافة اللبنانية الجهود لإيواء اللاجئين الفلسطينيين، وأوردت اسم مؤسس حزب الكتائب الشيخ بيار الجميل بين المنخرطين في عمليات الإيواء تلك. احتاج الأمر 27 سنة لتنفجر الحرب اللبنانية سنة 1975، وكان طرفاها الرئيسيان المنظمات الفلسطينية المسلّحة وحزب الكتائب. لقد فَقَدَ لبنانيون كثيرون الصبر وهم يرون إسرائيل تترسّخ أكثر فأكثر على أرض فلسطين ويمتد نفوذها في المنطقة.
النزوح السوري منذ سنة 2013 يكرّر التجربة نفسها، خصوصاً إذا فقد النازحون ومعهم اللبنانيون الأمل بوجود سورية كما يعرفونها وبعودة النازحين إلى بيوتهم وممتلكاتهم. ولبنان الغارق في أزماته واستقطاباته الطائفية والفساد، لا يستطيع تعليق مشكلاته على شمّاعة النازحين السوريين، لكنه ربما يفعل ذلك من دون انتظار 27 سنة كما في الحال الفلسطينية، لأن العالم يعيش إيقاعاً أسرع مما كان في أواسط القرن الماضي.
حرب 1975 -1991 انتهت بتسوية بعدما أدّت إلى هجرة أكثر من مليون لبناني. وإذا سار لبنان إلى حرب مماثلة فالمرشّحون للهجرة كثيرون إذا أتاحت لهم ذلك دول بدأت تغلق حدودها وتفقد القدرة على احتضان لاجئين، فضلاً عن أن الشرقيين، خصوصاً المسلمين، موصومون بشبهة الإرهاب التي تنفّر العالم، من باب الحيطة والحذر على الأقل.
لبنان على الحافة، ولا أحد يحسد أهل السلطة فيه... إذا كانوا أهل سلطة مسؤولة حقاً.
عن الحياة اللندنية