"ماكنجي" تل الرميدة

thumbgen (9)
حجم الخط
 

تنافس منطقة تل الرميدة، في الخليل، على لقب، واحدة من أقدم مناطق العالم، وأكثرها امتلاءً بالتاريخ والقصص و"أساطير الأولين". ففي الخليل أشجار زيتون عريضة، يبلغ عمرها آلاف السنوات، ويرتبط بعض الآثار، فيها، بحسب الاعتقاد الشائع، ببدء البشرية، وأيام قابيل وهابيل، ابني آدم عليه السلام.
منذ سنوات وبديع دويك الناشط في الدفاع عن حقوق الإنسان في الخليل، يقول لي: يجدر أن تتعرف إلى عماد أبو شمسية، الذي أتى المستوطنون إلى سطح بيته ليضعوا السمّ، أو مواد كيماوية، في خزانات المياه، ولكن أمرهم اكتشف فهربوا. وقبل ذلك أُلقيت قنابل حارقة على المنزل، وحُرق جزء منه. 
في آذار (مارس) الماضي، صار اسم عماد في كل مكان، فقد استطاع تصوير فيلم بُث "جزء منه" وبقيت أجزاء. ويوضح الجزء قيام جندي إسرائيلي بقتل الشاب عبدالفتاح الشريف، بعد إصابته ووقوعه أرضاً. وقد صُوّر هذا الفيلم بفضل كاميرا صغيرة من ناشطين أميركيين، ساعدوهم ضمن حملة "مدافعون عن حقوق الإنسان" التي أسسها عماد وبديع.
قبل هذا بثلاثة أشهر، كان ابنه عوني الذي ضُرب من المستوطنين عشرات المرات، واعتقل مرات، يتلقى إصابة بالطلقات النارية في قدميه الاثنتين، وتهديدات بقتله، فيرسله الأب ليسكن مع قريب له خارج الخليل.
قصة تل الرميدة مع الأفلام، طويلة، كتبتُ عنها منذ سنوات. فيوماً، كنت أجلس مع تجمع "شباب ضد الاستيطان"، في مقرهم، بين بيوت استولى عليها المستوطنون. وضحكتُ "أنّ الوضع هادئ". قالوا: "لا تعرف ماذا يحدث في الدقيقة التالية". أنهينا طبق "القدرة" الخليلية، وكنا في طريقنا للمغادرة عندما اندلعت المواجهة التي بدأت بحجر طفل مستوطن، وسرعان ما أُشرعت كاميرات وهواتف وبدأ التصوير والتصوير المتبادل، فهناك عملية سباق من يوثق مشهدا ينفعه في المحاكم والإعلام. 
في فيديو يعود لمنتصف العام 2014، يبدو المشهد أشبه بمبارزة بالسيف، ولكنه بكاميرات الفيديو، واحدة تحملها مستوطنة مشهورة بعنفها، تسمى مريم، والثانية تحملها فايزة زوجة عماد وكلتاهما تهرب من الكاميرا الأخرى وتقوم بالتصوير. ويأتي الجنود ويجبرون عماد وعائلته على الدخول للبيت مع ترك المستوطنين في ساحته. 
لو قُدّرت لتل الرميدة حياة طبيعية، لكان شجر الزيتون مصدر دخل زراعي وسياحي، وكذلك الآثار، وربما تطور بديع وعماد في صناعة الأحذية؛ فقد التقيا قبل ثلاثين عاماً وهما يعملان في مهنة يسميها أهل الخليل باسم "الماكنجي"، وهو الشخص الذي يخيط أجزاء الحذاء الجلدية. لكن الزيتون عرضة لحرائق وهجمات المستوطنين، وصناعة الأحذية الخليلية تحتضر تحت وطأة الواردات من الصين.
ترك بديع المهنة، بعد 19 عاما من العمل فيها، عقب حصوله على شهادة جامعية في سن الخامسة والثلاثين، فيما يستمر عماد "متعكزاً" على المهنة، متعايشاً مع إصابة يده التي فجرها رصاص الإسرائيليين العام 1988 وهو دون العشرين من عمره، وبسبب ستة اعتقالات إدارية، متقطعة، تخللها نحو 200 يوم من الاعتقال الانفرادي، وتعرُّض كل عائلته للاعتداءات الإسرائيلية. والآن مع خشيته ترك منزله إلا للضرورة القصوى وضمن ترتيبات معينة، لم يعد لديه أي عمل. 
عماد ليس بطلاً بالإجبار، بل عن سابق إصرار. ليس زيتون تل الرميدة، وليس تاريخها فقط، وليس عائلته التي تدعمه، ولكن أيضاً فكره اليساري، وتاريخ عائلته في المدينة منذ مئات السنوات، فهناك مثلا بيت باسم العائلة قريب من المسجد الإبراهيمي، وجد قبل 214 عاما. وعماد الذي لم يكن يسكن تل الرميدة قبل العام 2009، جاءها ليسكن منزلا فارغا آخر للعائلة عمره 97 عاماً، يسيجه الجنود بالأسلاك، فانتقل وعائلته قسرا لمنع استيلاء المستوطنين عليه، وليسكن على بعد نحو 30 مترا من بيوت استولوا عليها، وليقع في طريقهم، وليُصبح كما يخبرني هاتفيا "في معسكر مستوطنين وجنود".
كما كثير من أهالي الخليل الذين يُمنعون من دخول بيوتهم من الأبواب الأمامية فيدخلونها من الشبابيك الخلفية، يخشى عماد منذ تسجيله الفيديو الأخير، من تهديدات الجنود والمستوطنين فيلجأ لطرق خلفية وقفز جدران ودخول من بين الأشجار لبيته، وتجد النشطاء الدوليين وأصدقاء يسهرون عنده كنوع من الحماية، ويقول: "باقون هنا".

عن الغد الاردنية