عملية هيكلة الشرق الأوسط عملية معقدة تتفاعل فيها عناصر الحدود والموارد والسكان فى إعادة الصياغة. والعناصر الثلاثة لها مساران فى صياغة الواقع، أولها التفاوض الاستراتيجى متعدد الأطراف، وتحدثنا عن ملامحها العامة فى مقال سابق، وثانيها الإجبار الإقليمي. فى هذا المقال نتعامل مع الإجبار الاقليمى باعتباره المسار الثانى فى إعادة صياغة الواقع وأخذ مسألة فرض السيادة الإسرائيلية على الجولان السوري، فى إطار إعادة صياغة الواقع الإسرائيلى كمثال حي.
الفرق بين المسارين هو أن الأول يجرى من خلال عمليات تفاوض معقدة وطويلة، بينما يتم الثانى من خلال الإرغام والتوافق فى معادلات القوة الإقليمية والدولية. وتتعلق المعادلة الأولى بخصائص السكان وتطويعها واستثمارها فى إطار القوة الجيوبلوتكية للدولة، والمعادلة الثانية، ترتبط بتنمية موارد الدولة فى الإطار الاقليمي، والمعادلة الثالثة متعلقة بهيكلة الحدود التى يمكن الدفاع عنها فى سياق تغيير قيم علاقات مدنية عسكرية جديدة تسهم فى إيجاد تحالفات إقليمية ودولية جديدة للدولة. وملامح التغيير فى معادلات القوة الإسرائيلية كالتالي:
من ناحية أولي، اختار رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نيتانياهو، وأعضاء حكومته اليمينية المتطرفة، أن يعقد اجتماع الحكومة، صباح 17 إبريل الماضي، بمناسبة مرور عام على تشكيلها، فى الجولان السورى المحتل منذ عام 1967، وتعد هذه الجلسة، التى وصفت بـ »الرسمية«، هى الأولى من نوعها.
واعترف نيتانياهو بأنه قرر عقد جلسة احتفالية للحكومة فى هضبة الجولان كى يمرر إلى العالم رسالة فحواها أن »الهضبة ستبقى بيد إسرائيل إلى الأبد«، وزعم نيتانياهو فى تصريحات أدلى بها إلى وسائل إعلام أن »هضبة الجولان كانت جزءًا لايتجزأ من أرض إسرائيل فى العصر القديم، والدليل على ذلك هو عشرات الكُنس اليهودية العتيقة التى عثر عليها من حولها، كما أنها جزء لا يتجزأ من دولة إسرائيل فى العصر الحديث«.
تجدر الإشارة إلى أن هناك نحو 20 ألف إسرائيلى يعيشون فى الجولان إلى جانب 18 ألفاً من الدروز السوريين.
محاولات إسرائيل لضم الجولان بدأت عام 1981، كرغبة إسرائيلية فى معاقبة سوريا لعدم التفاوض، بعد تشكل جبهة الصمود والتصدى فى ليبيا التى لعبت فيها دمشق دوراً فاعلاً، حيث اعتمد الكنيست مشروعاً يفرض الحصول على تأييد غالبية 80 نائباً من أعضائه من أصل 120، أو إجراء استفتاء عام للمصادقة على أى تنازلات لسوريا تتعلق بهضبة الجولان.
تغير الموقف بعد اشتراك سوريا فى حرب الخليج الثانية إلى جانب القوات الأميركية، فقرر جورج بوش الأب، عقد مؤتمر للسلام فى مدريد عام 1991، وتم توقيع اتفاق أوسلو بين الفلسطينيين وإسرائيل دون التوصل إلى اتفاق مع دمشق.
بعد ذلك وافقت سوريا للمرة الأولى على إجراء مفاوضات مع إسرائيل فى واشنطن سنة 1994 على مستوى السفراء، ووافقت تل أبيب مبدئياً على الانسحاب من مرتفعات الجولان وإن وضعت بعض الشروط لتحقيق ذلك تتعلق بمدى الانسحاب والوقت الذى يستغرقه، كما عرضت أن يتم الانسحاب على مراحل ترافق كل منها خطوة لتطبيع العلاقات بين الدولتين.
وفى 1995 وافقت سوريا على استئناف هذه المفاوضات وخولت سفيرها فى واشنطن - وهو وزير خارجيتها الحالى وليد المعلم سلطة أكبر للتفاوض، وجرت المباحثات فى واى ريفر فى دورتين فى ديسمبر 1995 ثم فى يناير 1996، وبعدما تم التفاهم على النقاط الرئيسية، أعلن الرئيس بيل كلينتون فى ديسمبر 1999 بدء المفاوضات بين إيهود باراك رئيس الحكومة الإسرائيلية، وفاروق الشرع، وزير الخارجية السورى آنذاك، للتوصل إلى اتفاق نهائى بين الطرفين. وأبدى إيهود باراك استعداده لإعادة مرتفعات الجولان إلى سوريا، لكنه طالب بتمكين بلاده من الاستفادة من مياه بحيرة طبرية العذبة فى الخليل، عن طريق احتفاظها بشريط صغير يطل على البحيرة، كما طالب بضرورة وضع محطة إنذار مبكر فى الجولان بعد الانسحاب. لكن هذه المفاوضات التى جرت فى منطقة واى ريفر بالولايات المتحدة انتهت دون أن تسفر عن نتيجة.
مرت ثمانى سنوات بعد ذلك قبل أن تدخل سوريا فى مرحلة جديدة من مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل فى 21 مايو 2008، هذه المرة عن طريق تركيا، وكان الرئيس السورى يرى أن العملية التفاوضية بينه وبين إسرائيل فى حاجة إلى طرف ثالث يرعى التفاوض. ومع هذا فقد كان مفهوماً أن نجاح هذه المفاوضات سيؤدى فى النهاية إلى مفاوضات مباشرة بين الطرفين برعاية أمريكية، لكن هذه المفاوضات التى حققت بعض النجاح، سرعان ما توقفت بعد حرب إسرائيل مع قطاع غزة فى 27 ديسمبر 2008، ثم لم تعد تركيا قادرة على لعب دور الوسيط، خاصة بعد حادثة السفينة الحرية الذى أدى إلى تباعد بين أنقرة وتل أبيب.
منذ 2011 ومع انفجار الثورة والحرب الأهلية السورية، والتوافق الإيرانى الغربى على الشروط للحصول على الطاقة النووية، انغمست فى الجولان قوى حزب الله وجبهة النصرة والجيش السورى فى عمليات نوعية كثيفة.
وبعد التدخل الروسى الذى اقتصر فى معظمه على الشمال والوسط ودمشق الكبرى ظلت الجولان بعيدة عن هذا التدخل. كما أسهم النشاط الإسرائيلى السرى الناجح فى إدارة الصراع فى الجولان بين النصرة وحزب الله إلى تخفيض معادلات الاختراقات الإيرانية الشيعية والسنية.
من ناحية ثانية، وقعت إسرائيل والأردن هذا الشهر على اتفاق للبدء فى المرحلة الأولى من تنفيذ مشروع ربط البحرين الأحمر والميت بقناة، وإقامة مجمع لتحلية المياه شمال مدينة العقبة الأردنية، وصفها الإسرائيليون بأنها أهم اتفاقية مع الجانب الأردنى منذ معاهدة السلام عام 1994، وقد شارك فى مراسم التوقيع، فى عمان، وزير الرى الأردني، ووزير التعاون الإقليمى الإسرائيلي، وممثلون عن البنك الدولى والسفارتين الأمريكية والإسرائيلية فى عمان وبموجب الاتفاق، ستتم تحلية مياه البحر الأحمر وتوزيعها بين الأردن وإسرائيل وفلسطين، ونقل المياه المالحة بعد عملية التحلية بقناة يصل طولها إلى مائتى كيلومتر إلى البحر الميت لإنقاذه من الانحسار وانخفاض مستوى المياه فيه.
وتتعهد إسرائيل - بموجب الاتفاق - بتزويد الأردن أيضا بكميات إضافية (خمسين مليون متر مكعب) من مياه بحيرة طبرية، علاوة على ما نص عليه اتفاق السلام ببن البلدين. وقال وزير الرى الاردنى إن الاتفاقية رسمت الخطوط الواضحة لمكونات المشروع الرئيسية، وطريقة التنفيذ والجدول الزمنى الذى سيتم السير به، وآلية متابعة الأعمال وإدارة المشروع والتمويل والآثار البيئية والاجتماعية، موضحا أن هذه الاتفاقية جاءت استكمالا لمذكرة التفاهم الثلاثية التى وقعها الأردن فى واشنطن نهاية عام 2013 مع الجانبين الفلسطينى والإسرائيلى بحضور دولى رفيع المستوي.
وقال المتحدث الرسمى للوزارة الأردنية ـ عمر سلامة، إن تكلفة المشروع تقدر بنحو 900 مليون دولار، سيتم تأمينها من الدول والجهات المانحة بما فيها الولايات المتحدة والبنك الدولي، مشيراً إلى أن هناك التزاماً دولياً بتمويل المشروع.
من جانبه، وصف وزير الطاقة الإسرائيلى سيلفان شالوم الاتفاقية بأنها «أهم اتفاقية» بين البلدين منذ توقيع اتفاقية السلام بينهما عام 1994.
من ناحية ثالثة، يأتى مشروع قناة أشدود الإسرائيلية لربط البحرين الأحمر والمتوسط ليكون بديلاً لقناة السويس، حيث تخطط إسرائيل لنقل حركة التجارة العالمية من قناة السويس إلى ميناء أشدود وإيلات لإفساد تنمية القناة والتضييق على مصر مالياً.
وذكرت وسائل الإعلام الإسرائيلية أن تل أبيب بدأت تمويل مشروع قناة أشدود بديل قناة السويس المصرية الذى يربط ميناء أشدود على البحر الأحمر مع ميناء إيلات فى خليج العقبة ومنه إلى البحر الأحمر سواء كان ممرا مائيا كقناة السويس أو البديل للقناة الإسرائيلية فى حال فشلها سيكون خط سكك حديد ينقل البضائع من البحر المتوسط إلى سفن فى خليج العقبة.
بهذه الوسائل الثلاث ( تحلية مياه البحر الأحمر، وربط البحرين المتوسط والأحمر وضم الجولان) تعمل إسرائيل على بناء دور قائد لها فى المنطقة والمستقبل.
عن الاهرام