(إهداء)
إلى محمد الجندي، وباولو ريجيني.. إلى مالك عدلي، وعمرو بدر، ومحمود السقا.. إلى معتقلي الأرض والحريات.. إلى كل سجين رأي في مصر والعالم
(1)
بدأ عباس يهبهب ويعوي، ويغرس أظافره وأنيابه في قماش المرتبة، يمزقه ويمضغ القطن، ويزداد هياجه فيبدأ بضرب وجهه بكفيه كمن يلطم، ويعمل أظافره في جلده تجريحا وتمزيقا، ونحن ننظر إليه، ونعتقد أنه في الدقيقة التالية سيهدأ، فلا يهدأ وكل ثانية تمر تزيده هياجاً إلى درجة أرعبتنا، وجعلت كلا منا يفكر في مغادرة الحجرة، لولا أن عباس أهوى بفمه على لحم ذراعه (...) وغرس أسنانه في لحمه وبدأ ينهشه، والدم يتساقط من فمه ويختلط بلعابه.
(هوان الدم حيث لا ينفع الندم – تأملات فلسفية في سيكلوجية العض)
(2)
في تلك اللحظة بالذات، رأيت على الحائط المجاور لفراش عباس بروازا فيه شهادة معلقة، حروفها تلمع تحت الزجاج المتسخ (...) كانت براءة نيشان الواجب من الدرجة الثانية، وتوقفت عند كلماتها: «تقديرا لتفانيه في خدمة مصالح الوطن العليا»... في ذلك الوقت ونحن نتأهب لمغادرة الحجرة مصمصت أم على الحسادة بشفتيها، وهمست للواقفة بجوارها: «لحم الناس يا بنتي.. اللي يدوقه ما يسلاه.. يفضل يعض إنشالله مايلقاش إلا لَحْمُه.. ألطف بعبيدك يارب».
(كما تدين تدان – حكمة دائما ماتتجاهلها سلطات القمع)
(3)
هكذا رسم يوسف إدريس مصير العسكري الأسود «عباس الزنفلي» وحش التعذيب في المعتقلات السياسية، وكان إدريس قد استغرق معظم قصته الطويلة (لا أعتبرها رواية قصيرة) في وصف التغير العجيب الذي ظهر على شخصية زميله الدكتور شوقي بعد خروجه من المعتقل، فقد اهتم بوصف شوقي وما حدث له في 8 لوحات من بين 9 تتكون منهم القصة، فقد تحول شوقي من زعيم طلابي إلى كائن مزعج متبلد بلا روح. (كم نفتقد شجاعتك يا إدريس في زماننا الضحل – حنين)
(4)
يقول الراوي: أرفض أن اصدق أن بضعة شهور من السجن تحيل إنساناً، مهما كان، من النقيض إلى النقيض، وأرفض أن أعتقد أن شوقي القديم مات وانتهى، ولم يبق منه إلا .... «هذا الشئ».. لقد تغير حتى صوته، فاصبح لا يتحدث إلا همساً، همس خافت كمن يتوقع دائماً أن ترفض طلبه، ينظر في اتجاه واحد فقط كأنه يرتدي نظارة خيول السباق حتى لا ترى إلا أمامها وفقط، فأين ذلك من شوقي المتلفت حوله، الباحث المنقب في كل أمور الدنيا والناس، الغاضب الثائر إذا وقعت عينه على الغضب.. الذي يُهدِد الدنيا بالويل والتغيير وإخضاعها لما يريد؟!. لقد حاولت كثيرا استعادته، وكان لابد أن يأتي اليوم الذي أؤمن فيه ان شوقي لم يتغير فقط، لكنه اصبح بالتأكيد إنسانا آخر غير شوقي الذي عرفته.. فكم من مرة ضبته يتآمر، وكثيرا ما سمعته ينافق «الطبيب المناوب»، ويكذب.. يكذب باستمرار، وبلا سبب، وبطريقة ساذجة مكشوفة تدفع للاشمئزاز، ورأيت كيف يُحضر المرضى في كشك الغيار، ويساومهم مساومات رخيصة على أن «يتوصى» بهم في العلاج، ويأخذ مقابل ذلك بضعة قروش هي كل ما يمتلكه المريض الراقد في عنبر المستشفى، وكان يسرق من زملائه أشياء تافهة.. أي شئ حتى لو كان فرشة أسنان قديمة، لكنني برغم كل هذا كنت لا أال أؤمن أن شوقي لم يضع ضياعا نهائيا، وأن كل ما يبدو من تصرفاته مجرد انعكاسات صادرة عن قشرة صدأ، آجلاً أن عاجلاً ستزول، ولذلك يجب أن أحاول بلا يأس أن أستعيد مرة أخرى ذلك الكائن الثائر النافع لشعبه وبلده، فالواقع يؤكد لي أن شيئا هائلا خطيرا قد حدث له، لكنني لم أكن اعرف كيف أفعل ذلك، حتى نطق عبدالله التومرجي بتلك الجملة التي غيرت كل شئ.!
(مسوخ الأمن من مأساة «علي البدري» إلى مسخرة بكري – عنوان مقال مؤجل)
(5)
كان شوقي يفتش في دفتر المأموريات لاختيار الزيارات الطبية القريبة من مسكنه، حتى عثر على خطاب من المحافظة يطلب توقيع الكشف على الجندي عباس محمود الزنفلي لإثبات عجزه الكامل تمهيداً لفصله من الخدمة، ولما مد شوقي يده وأخذ الخطاب، قال عبدالله التومرجي معترضا: ما تسيب المأمورية دي يا دكتور.. عارفشي حضرتك عباس الزنفلي ده يبقى مين؟.. ده يا بيه اللي كانوا بيسموه العسكري الأسود.
(عبدالمامور يا بيه – حجة شعبية شائعة للقمع)
(6)
صمم شوقي على الذاهب للمأمورية بنفسه لمواجهة جلاده، ويقول الراوي: طلبت الذهاب معهم، ليس بغرض حب الاستطلاع، ولكن لأن العسكري الأسود كان علامة رئيسية من علامات جيلنا مثل السجون والإرهاب والأمجاد والكفاح المسلح، فكيف تفوتني رؤيتها، ومن الكلمات القليلة التي نطق بها شوقي في الطريق عندما سألته عن حقيقة ما يقال عن العسكري الأسود، قال: لا.. العسكري الأسود ده حاجة تانية.. كان عمله أن يضرب.. أحيانا للحصول على اعترافات، وغالبا لمجرد الضرب و«هد الكيان».. نعرف دورة مفتاحه في قفل العنبر ونميزها حتى في أحلامنا، نستيقظ على وقع خطواته، تسقط قلوبنا إلى الأرض عندما نسمع سؤاله المميت: مين اللي عليه الدور؟.. لم يكن ألم الضرب هو كل شئ، هناك ألم آخر مصاحب أبشع.. أقوى، إنه ألم الإهانة.. حين تحس أن كل ضربة على جسدك تصاحبها ضربة أعنف إلى كيانك كله، إلى إحساسك وكرامتك كإنسان.
(إضرب يانظام جبان – من هتافات الثوار)
(7)
في بيت فقير داخل حارة ضيقة بقلعة الكبش، كان يضاعف شغفي لرؤية هذا المارد الأسود الذي قام بتخريب إنسانية صفوة بأكملها من ابناء جيلنا الموعود.. تراه كيف يبدو وقد زالت دولته، وضاق عليه المصير؟، وف البيت سمعت صوت عواء مخيف متصل مستمر، كأنه عواء ذئب حقيقي، ولم أكن وحدي الذي خفت (الوصف للراوي) فقد فزع عبدالله التومرجي وقال: ما نخليها يا دكتور للحكيمباشي اعمل معروف. ولمحت شوقي اصفر الوجه زائغ العينين يتطلع إلى الباب الذي يصدر العواء من خلفه، ثم تقدم بعد تردد ودخل ونحن خلفه، كان عباس الزنفلي يرقد نصف رقدة وزوجته تسنده، وكان كمن كف لتوه عن البكاء، حينها انتابت شوقي حالة غريبة تحمل كل التناقضات والاضطرابات على تعبير وجهه، وبدا كما لو أن قشرة الصدأ قد بدأت تتساقط عن وجهه وكيانه، وعاد إليه صوته الثائر القديم: انت عباس؟
- عيان بإيه؟
- إنت عباس محمود الزنفلي؟
- إنطق
لم يرد الرجل، وقالت الزوجة بالراحة عليه يادكتور.. ده عيان، ولم يتوقف شوقي عن أسئلته الدفينة:
- ما تسعبطش.. ما تعملش انك ناسي، مش فاكر العنبر؟، مش فاكر علقة الساعة 5 كل يوم؟، مش فاكر دور 9؟، مش فاكر النبابيت؟، مش فاكر الرباج؟، مش فاكر الدم؟، فين كرباجك.. وديته فين؟.. فين صراخك يا وحش.. فين؟، فين نعل جزمتك الحديد؟، فين النار؟.. بص لي وانكلم وزعق زي زمان.. سمعني صوتك.. صَرَّخ يا عسكري يا أسود، وإن كنت ناسي افكرك حالاً. وبسرعة مذهلة خلع شوقي جاكتته وقميصه وكشف ظهره، ويا لهول ما وقعت عليه أبصارنا.!
(رأيت شياطين الجحيم على وجه ابني – والدة ريجيني)
(8)
حينها زاد عواء عباس، ومد فمه على ذراع المستند على ركبته، وغرس أسنانه، وانتزع قطعة من اللحم، وهو يتكور بجوار الحائط، يهبهب كالكلب هاو هاو هاو، ويسكب على شوقي نظراته الميتة، وقد خفت صوت العواء واصبح أنينا مكتوماً، وكأنه ينزف من صوته والدم قد بلل عواءه وخنقه.
(الإنطفاء – مصير أي حريق عشوائي)
(9)
بعد اسابيع قال الراوي لشوقي، بغير تقديم ولا مناسبة: أتعرف أنك حين تؤذي غيرك، فأنت تؤذي نفسك دون أن تدري؟ وسرح قليلاً ثم ضحك فجأة وقال: دع الضارب يضرب، فيده التي تضرب تمتد أيضا إلى ذات نفسه، فالتعذيب سلاح ذو حدين.
(#لا_للتعذيب- #لا_للتخريب- #تيران_لا)
..........................................................................................................................................
* هناك مقالات أكتبها، وهناك مقالات تكتب نفسها باسمي، وهذا المقال كتب نفسه، فقد كنت اخطط لكتابة مقال مباشر عن الدور التخريبي الذي تقوم به الأذرع الأمنية السرية في كل مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، مع التركيز على مؤتمر «تصحيح المسار» الذي ياتي كحلقة من حلقات تفكيك الكيانات السياسية عن طريق تصنيع الانشقاقات الداخلية، وهو الفيروس الذي دمر الأحزاب ومعظم النقابات في ربع القرن الأخير.
عن المصري اليوم