في السلم والحرب، وفي أي مكان من العالم، تظل للصورة أهمية قصوى؛ في توثيق أي حدث، أو كشف الحقيقة، أو تخليد الذكريات... ولذلك، فإن الإعلام يعتمد على الصورة بشكل أساسي، سواء في التقارير الإخبارية، أو في القصة الصحافية، أو في توجيه رسائل سياسية معينة.. بعض الصور اكتسبت أهمية استثنائية، وأحدثت تغييرا جوهريا في مجريات الأحداث، وصارت جزءاً من التاريخ، في مقابل ملايين الصور العادية، التي لا تحتاج سوى لحظات قليلة حتى تُنسى.. الصورة عبارة عن حكاية كاملة، ولكن مختصرة، ميزتها سهولة وصولها إلى كل الناس، دون عناء الشرح، وخطورتها أنها أحيانا قد تُفهم على أكثر من وجه.. في هذه الحالة تصبح سلاحا ذو حدين.. والصورة لا تكتسب أهميتها من جماليتها فقط، أو من زاوية التقاطها، ومن تحقيقها كافة المتطلبات التقنية؛ بل بنفس الأهمية، وربما أكثر: من توقيت نشرها، وتحديد الجهات المستهدفة المُراد إيصال الرسالة إليها.. من أشهر وأهم الصور على الإطلاق؛ صورة الطفلة الفيتنامية "كيم فوك" (1972) التي تظهر فيها عارية تماماً، وهي تجري مرعوبة بإتجاه الكاميرا وتصرخ من آلام الإحتراق، بفعل قذيفة "نابالم" ألقتها القوات الأميركية على قريتها، وهذه الصور كانت من بين أهم أسباب وقف الحرب الفيتنامية. وهناك عشرات الصور الأخرى التي لا تقل أهمية. المفارقة الغريبة، أن في فلسطين عشرات، بل مئات الصور واللقطات المهمة التي يمكن أن تُحدِث فرقا جوهريا، لكن، للأسف أساء الإعلام استخدامها، أو فوّتها، أو ركز بدلا منها على صور غير مناسبة.. مثلاً، صورة الشاب الفلسطيني عند المدخل الشمالي لمدينة الخليل، وهو يطارد جنديا إسرائيليا ويحاول طعنه. كان يجب التركيز على صورة الجنود وهم يطلقون الرصاص عليه بشكل كثيف من المسافة صفر، بدلا من إبراز صورته وهو يرتدي "فست" أصفر كتب عليه "صحافة". الجانب الفلسطيني احتفى بالشهيد، وتغنى بشجاعته وتضحيته، أما الإعلام الإسرائيلي فقد ركز على الصورة، بل واعتمد عليها في التضييق على الإعلاميين الفلسطينيين، متهما إياهم بتجاوز قواعد المهنية الصحافية. صورة السيدة الفلسطينية العجوز، وهي تحمل بيدها "شبشب"، وتلوح به في وجه جندي إسرائيلي.. الجانب الفلسطيني احتفى بشجاعتها؛ أما الإعلام الإسرائيلي فقد أظهر الصورة على النحو التالي: الجندي الإسرائيلي "الخلوق" يترفع عن رد الإهانة لسيدة فلسطينية... في صورة أخرى في فيلم قصير على الأغلب صُوّر في غزة في الانتفاضة الأولى، يظهر فيه جندي إسرائيلي يطارد طفلا فلسطينيا، وفجأة ينقلب المشهد، فيبدأ الطفل برمي الحجارة على الجندي، الذي يولي هاربا.. وطبعا الإعلام الفلسطيني ركز على شجاعة الطفل، بينما الإعلام الإسرائيلي أظهر الصورة على نحو مختلف: جندي إسرائيلي مسلح، تمنعه إنسانيته من إطلاق النار على طفل كان يرميه بالحجارة!! وفي الحروب العدوانية التي شنتها إسرائيل على غزة، كانت أكثر الصور انتشارا وتهكما صور مواطنين وجنود إسرائيليين يهرولون هربا إلى الملاجئ بمجرد سماعهم صافرة الإنذار، الجانب الفلسطيني سعى لإظهار "جُبن الاسرائيليين"، وخوفهم، وحرصهم على الحياة.. أما الإعلام الإسرائيلي فكان يبالغ في نشر هذه الصور للتأكيد على أن المدنيين الإسرائيليين ضحايا "الإرهاب الفلسطيني"، وأن حياتهم الطبيعية تعطلت بسبب الصواريخ.. الملاحظ في هذه الصور وغيرها أن الفلسطيني كان يراها من زاوية واحدة فقط، أي الجانب البطولي الفلسطيني، وفقا لثقافته ومعاييره الخاصة.. بينما الإعلام الإسرائيلي الذي ساهم بنشر هذه الصور، بل وعمل لإيصالها إلى كل العالم، سعى لتوظيفها بالشكل الذي يخدم الدعاية الصهيونية؛ أي إظهار إسرائيل بصورة الضحية، وصورة جيش الدفاع "المنضبط"، "صاحب الأخلاق" وجنوده "الإنسانيين"، "الطيبين" الذين يمتنعون عن استخدام أسلحتهم، مقابل الفلسطيني "المعتدي"، الذي يتنكر بزي صحافي، أو يستخدم سيارات الإسعاف لنقل أسلحة، أو يستخدم المدنيين تروسا بشرية، ولا يتورع عن قصف أحياء سكنية بالصواريخ، أو طعن مدني إسرائيلي يمشي في الشارع بسلام، أو دعس عجوز تنتظر الباص ليوصلها إلى بيتها!! لا شك أن الإعلام الإسرائيلي يكذب، ويضلل الرأي العام، ويختلق قصص لا أساس لها، أو يحرّف قصصا حقيقية، ويفسرها كما يحلو له، أو يتعمد إخفاء صور معينة تفضح ساديته وجرائمه... ولا غرابة في هذا، فهذه صنعة الإعلام أساسا، وإسرائيل متفوقة وبارعة في هذا المجال.. ولا شك أن الفلسطيني شجاع، حين يضحي بنفسه أو يدافع عنها، سواء بطعن جندي احتلالي، أو بالرد على مستوطن يجثم فوق أرضه، وهذا حقه الطبيعي المشروع... الشاب الذي يهجم على دورية، والسيدة التي تحاول رد الإهانة على حاجز عسكري، والعجوز التي تشهر حذاءها بوجه الجنود، والطفل الذي يطارد جنديا مسلحا... هؤلاء أبطال حقيقيون، عندما فعلوا ذلك، لم يكن ذلك بقصد التصوير، وربما كانوا لا يعلمون بوجود كاميرا أصلا، ولم يسعوا لالتقاط صورة مميزة لنشرها على الفيسبوك... وأيضا المصور الذي التقط تلك الصور، كان يؤدي واجبه بمهنية عالية، ويعرض حياته للخطر، وعندما نشر تلك الصور فعل ذلك بدافع الأمانة الصحافية... المشكلة ليست في المواطن الفلسطيني مهما كان فعله، وليست في المصور.. إنها في كيفية نشر الصورة، واختيار اللقطة المناسبة، وتوقيتها، والجهة التي ستستقبلها، والرسالة التي يمكن أن تصل للعالم.. والمسألة ليست في كيف نرى أنفسنا، بل كيف نريد للعالم أن يرانا.. إسرائيل دولة مدججة بالسلاح، لديها ترسانة نووية، وأقمار إصطناعية، واسراب طائرات هي الأقوى من نوعها، وغواصات، ودبابات وجيش خاض العديد من الحروب... ومع ذلك، الإعلام الإسرائيلي يسعى دوما لإظهار إسرائيل في صورة الضحية، الدولة "المسكينة"، المهدَّدة من قبل جيرانها "الأشرار"... أما الفلسطيني فلم يحسم خياره حتى اللحظة، تارة يريد أن يظهر للعالم بصورة البطل الخارق، وتار بصورة الضحية التي ليس بيدها حيلة.. والمشكلة أن الإعلام الفلسطيني غير منضبط، وغير متفق على رواية واحدة؛ بسبب الخلافات السياسية، وبسبب دخول الإعلام المجتمعي وصحافة المواطن على الخط، وهذا النوع من الصحافة يصعب ضبطه، أو حتى توجيهه... نحن اليوم في عصر الإعلام، عصر الكلمة والصورة التي صارت أهم من امتلاك حاملة طائرات، وإسرائيل ترتكب يوميا جرائم مروعة، هنا على الأرض، وهناك في الإعلام.. وآن الأوان لنقلب المشهد..