وفد اتحاد الكتاب برئاسة الشاعر مراد السوداني، وعضوية الناقد وليد أبو بكر، والروائي رشاد أبو شاور والشاعر خالد أبو خالد، الذي قام بزيارة سورية وبلقاء نجاح العطار نائبة الرئيس، فجَّر قنبلة في الوسط الثقافي الفلسطيني والعربي، بين مؤيدين ومعارضين للنظام السوري، وسط صمت أكثرية الكتاب.
الوفد عبر عن تأييده للنظام الأسدي أثناء أيام الزيارة. معظم السجالات والردود اعتمدت على شيطنة الآخر أو تقييمه العدمي، أو سحب الاعتراف بمكانته الأدبية وتسفيه أعماله. وكان هناك نوع من الردود التي تجاوزت الخطوط الحمراء في أدب الخلاف والاختلاف. وإذا كان من المنطقي رفض الشيطنة والنفي والشتم وعدم الدخول في متاهاتها، لأنها تجرد أصحابها من الموضوعية ومن أهم مقومات السجال.
لا شك، أن مواقف رئيس وأعضاء الوفد وتخندقهم مع نظام يخوض حرباً لا هوادة فيها ضد شعبه، طرحت العديد من الأسئلة حول دور الكتاب وموقعهم في الصراع بين شعوب من جهة وأنظمة مستبدة وقوى أصولية رجعية في الجهة الأخرى. ويطرح في الوقت نفسه دور اتحاد الكتاب وآلية عمله وحدود تمثيله للكتاب الفلسطينيين.
سأبدأ بالسؤال الأسهل والقائل: هل مواقف الوفد المنحازة للنظام تعبر عن مواقف الكتاب الفلسطينيين؟
إن موجة الاحتجاج التي عبرت عنها العرائض والمقالات والردود تقول إن نسبة كبيرة ضد المواقف المنحازة للنظام. وبصرف النظر إذا ما كانوا أعضاء في الاتحاد أم لا، أو كانوا أقلية أو أكثرية، فإن الانحياز في موضوع حساس من هذا النوع يحول الاتحاد إلى أداة استخدامية يوظفها طرف ما أو مجموعة أفراد في خدمة رؤيته الخاصة. فالاتحاد ليس تنظيماً سياسياً أو منظمة سياسية تتعامل بمواقف براغماتية انطلاقاً من اعتبارات سياسية. اتحاد الكتاب ليس أداة في جيب التنظيم الأكبر. الاتحاد كونه يمثل كتاباً ومثقفين ومهما كان التمثيل منقوصاً، فهو ملزم باحترام القيم التي حملها ويحملها كتاب فلسطين الذين انتصروا لحرية شعبهم وحرية كل الشعوب والذين ذادوا عن القيم الإنسانية.
هل كان غسان كنفاني وإدوارد سعيد وفدوى طوقان ومعين بسيسو وسميح القاسم ومحمود درويش وأبو سلمى وإميل حبيبي وسميرة عزام وجبرا ابراهيم جبرا وإسماعيل شموط وناجي العلي سيقومون بهذه الفعلة؟ هل كانوا سيتجاهلون آلام الشعب السوري ومعاناة ملايين المشردين منه؟ هل كانوا سيحتفلون مع الذي يرسل البراميل المتفجرة إلى المستشفيات؟ هل كانوا سينحازون مع أعتى ديكتاتورية ويتبنون روايتها الكاذبة؟
بالتأكيد لا، وبالقطع لا. لقد انحاز درويش إلى ضحايا حلبشة ولم يفكر لحظة أن يكون مع الجلاد، وانحاز معين بسيسو إلى عمال وفلاحي مصر وعارض الزعيم الوطني جمال عبد الناصر، ورفعت فدوى طوقان جبين شعبها للأعلى في أوج الهزيمة الحزيرانية المذلة.
لم يتحسس الوفد الزائر محنة حلب المخضبة بدم الأطفال والأطباء والأبرياء الذين كانوا ينتشلون من تحت الأنقاض. كان "كتابنا" الزائرون يحتفلون ويتبادلون الخطابات مع رموز القتل والقمع الدموي، كانوا يرددون خطاب الجلاد، كانوا يفترقون مع ضمير فلسطين الذي ظل حياً وحاضراً منذ أن ابتلي الشعب الفلسطيني بهذا النوع من الاحتلال الكولونيالي الإقصائي.
يقول إدوارد سعيد في كتابه المثقف والسلطة: إنّ المثقّف لا يخضع للسياسي ولا للممول ولا يؤمن بهم مهما كان نوعهم لأن الخضوع للسياسي وللممول هو نشوز عن دور المثقف وسلوكه. فعلى المثقّف ألا يسمح لسلطة من السّلطات أن توجّهه أو توجه خطابه لخدمتها لأنّها عادة ما تخذل المثقفين بعد استخدامهم.
هذا في الوضع الاعتيادي ودون ارتكاب السلطة السياسية مجازر وإعدامات وحروباً، حتى لو كان النظام يخوض معارك وطنية كما كان عليه الحال في الحقبة الناصرية. ويعرف سعيد المثقف: بالذي يقوم علناً "بطرح أسئلة محرجة" ويتناول المسكوت عنه بالنقد استناداً لقيم الحرية ومبادئها. ذلك النقد الذي يجعل السلطات والممولين غير قادرين على استقطابه. وإذا ما نجحوا في استقطابه فإنه يفقد حالاً بعده النّقدي ويتحول إلى مثقف سلطة.
ويضيف سعيد: المثقف يمثّل نبض الجماهير وهو يقاوم بفكره ونشاطه هيمنة السّلطة السّائدة بمختلف أنماطها الماديّة والاجتماعيّة والسّياسيّة. ويتمرد على المؤسّسة الرسمية ولا يضعف أمام هيمنة السّلطة.
هل استند وفد الكتاب الزائر للنظام الأسدي إلى معايير سعيد التي هي معايير أنطون غرامشي، وجوليان بندا، وريجيس ديبريه وغيرهم؟ هل مارسوا النقد: ضد الحل الأمني الدموي الذي اتبعه النظام، ضد قتل الآلاف تحت التعذيب، ضد قصف المخابز، وضد موت المئات جوعاً تحت الحصار. الجواب لا وألف لا.
هل مثّل كتاب الوفد والكتاب الذين أيدوهم في العلن، وأيدوهم بالصمت كما فعل أعضاء في الهيئة الإدارية للاتحاد، هل مثلوا نبض الجماهير؟ هل توقفوا عند حقيقة أن الانفجار الشعبي في سورية أتى نتيجة لأزمة بنيوية ونتيجة لانسداد اقتصادي بسبب السياسة الاقتصادية النيوليبرالية التي استبدلت قطاع الدولة بقطاع خاص من داخل الدولة؟ ما أدى إلى تدني معدلات النمو وتدنٍ شديد لمعدلات الناتج المحلي الإجمالي للفرد. وبفعل ذلك أصبحت الاقتصادات عاجزة عن خلق وظائف تتناسب مع النمو السكاني، وارتفعت البطالة بنسب غير مسبوقة في الوقت الذي تعززت ثنائية ثراء فاحش وفقر مدقع.
ورغم ذلك يتجاهل الكتاب هذه الحقائق التي قادت إلى الانفجار ويرددون دعاية النظام أن البلد كان يرفل بالنعيم والسمن والعسل والحريات إلى أن جاءت المؤامرة لتقضي على الأخضر واليابس.
يرفض الكتاب حق الشعب بالتغيير، ويتجاهلون خروج أكثريته في احتجاجات سلمية موثقة مطالبين بالحرية والكرامة والخبز. النظام تجاهل الحراك الشعبي ورأى فيه مجموعات مندسة ومؤامرة خارجية بدأت منذ انتفاضة درعا الشعبية الضخمة. والكتاب تبنوا رواية المؤامرة.
الكتاب أنجزوا مهمة "تاريخية"، فصلوا الصحافيين الذين لا يستطيعون قول شيء دفاعاً عن موت أبناء جلدتهم في المخيمات المحاصرة ولا يستطيعون قول شيء عن كتاب وإعلاميين ومثقفين قضوا تحت التعذيب في بلد السمن والعسل، فصلوا الصحافيين عن الكتاب الموالين للنظام الأسدي في فرع سورية، ووحدوا الكتاب الموالين هناك مع الكتاب الموالين هنا. ذلك هو الإنجاز الذي يفخر به وفد الكتاب.
كلمة أخيرة، إن الكتاب المنحازين لنبض الشعوب ولحقها في التغيير والانعتاق، ميزوا على طول الخط بين الشعوب والأنظمة، بين الثورة والثورة المضادة، وكانوا دوماً ضد الأصولية والتدخلات الخارجية وضد تفكيك البلدان. لكن الموالين كانوا وما زالوا يدمجون بين الشعوب والمعارضات الديمقراطية وبين الثورات المضادة والتدخلات الإمبريالية والرجعية. والدمج هي لعبة الأنظمة التي تُحرم أي شكل من أشكال التغيير والنضال الديمقراطي. وبقي القول: إن ما فعله الوفد أساء للثقافة وقيمها، عمل يجب أن يخضع أصحابه للمساءلة والمحاسبة.
تعادل محبط بين اتحاد خانيونس وبيت حانون
19 سبتمبر 2023