عصَفَ القطاع في نهاية الاسبوع ليس بسبب غارات سلاح الجو، حيث لاقى ثلاثة اطفال من عائلة ابو هندي في مخيم الشاطيء للاجئين حتفهم في حادثة مأساوية، بينما كانوا نياماً عشية السبت. يسرى ابنة الثلاث، وشقيقاها راهف ابن السنتين وناصر ابن الشهرين احترقوا موتا بسبب اشتعال نشب في بيتهم. في تلك الساعات خيم الظلام على الحي بسبب انقطاع عادي للكهرباء، كما هو معتاد منذ بضع سنوات في مدن القطاع. شموع أشعلها الأبوان لتبديد الظلام أشعلت غرفتهم ولم تترك لهم أملا. نقل الاطفال الى مستشفى الشفاء، ولكن موتهم تقرر على الفور. يوم السبت برز في جنازة الاطفال الثلاثة مشهد غير عادي: ثلاثة نشطاء من الذراع العسكرية لـ «حماس»، ملثمون ومسلحون، حملوا الجثامين الثلاثة على ايديهم ووقفوا على قبورهم. وعلى رأس المؤبنين وقف المسؤول الكبير في الجناح السياسي للحركة، اسماعيل هنية، ولم يضع وقتا. ففي خطاب تأبين استغرق عشرين دقيقة جيّر هنية المصيبة. فقد ادعى بأن قطع الكهرباء هو نتيجة الحصار المفروض على غزة. انتصار تحت الأرض ليس صدفة أن استعصى التوتر، الاسبوع الاخير، مع «حماس» على التدهور الى خطر عام حقيقي على الطرفين. ليس فقط بسبب الوساطة النشطة من المخابرات المصرية، الحكومة القطرية، ومبعوث الامم المتحدة الى الشرق الاوسط. فالهدف المسبق لهذا التوتر لم يكن مقدمة متدرجة لمواجهة عاصفة. فالتوتر بادرت اليه الذراع العسكرية لـ «حماس» وله هدف واضح. من المشكوك فيه أن يكون هذا تحقق، ولكن من السابق لاوانه الوصول الى النتائج. منذ بضعة أشهر والواقع الامني في غزة يسجل تغييرا جوهريا وهدوءاً. فأنفاق «حماس» تنهار واحداً تلو الاخر، وتدفن أحيانا مقاتلين من الذراع العسكرية يتدربون فيها. فثمة ازدياد عال في الحالات بشكل نسبي، وفي القطاع تدور تساؤلات حول السبب. بعضها أنفاق داخل غزة ومحيطها، واخرى تسمى «أنفاقا هجومية»، تدخل الى الاراضي الاسرائيلية. في ذروة الميل الخفي الذي ينتاب «بلاد الانفاق» في القطاع، أعلنت حكومة اسرائيل عن العثور على وسيلة تكنولوجية لاكتشافها. إن الوسائل التكنولوجية التي توجد اليوم تسمح باكتشاف فضاءات داخل الارض والتمييز بينها تحت متر وأحد تقريبا. ولكن الانفاق حفرت باعماق تتراوح بين عشرة وعشرين متراً. وتفيد محافل اسرائيلية منذ سنتين بان خبراء من الجهاز الامني يبحثون عن وسائل لاكتشاف فضاءات في هذه الاعماق، وأعربت عن ثقتها بان الحل سيتوفر. وبالفعل، قبل ثلاثة أسابيع بشّر رئيس الوزراء باختراق تكنولوجي لاكتشاف الانفاق: «سكان غلاف غزة يمكنهم أن يكونوا هادئين»، وعد بنيامين نتنياهو. وبالتوازي بلغ شهود عيان في غزة بأن جرافات الجيش الاسرائيلي عملت في الاسابيع الاخيرة بنشاط على الحدود مع اسرائيل وبوسائل تكنولوجية معينة في محاولة لاكتشاف الانفاق. تصوروا محمد ضيف ومرؤوسيه: من مكان اختبائهم في مدينة غزة يشاهدون بعيون تعبة كيف تفلت الوسيلة الاستراتيجية التي بنوها بكد ومال كثيرين على مدى عقد من الزمان ونيف، من بين ايديهم. هذه الانفاق تسمح لـ «حماس» بتسجيل إنجازين حاسمين. فاثناء المعركة يمكن اقتحام خطوط العدو وايقاع الخسائر، وفي ايام الطوارئ او الحياة العادية يمكن اختطاف اسرائيليين وادارة مفاوضات لتحرير السجناء مقابلهم. في «حماس» فهموا منذ وقت بعيد بأن إسرائيل ليست سخية على الاطلاق في هذه النقطة، وفقط أسرى اسرائيليون سينتجون صفقات تحرير. وها هي الوسيلة الاولى للحصول على اسرى اسرائيليين تنكشف وتهاجم. من ناحية اسرائيل، هذا انتصار تحت الارض، خفي عن العيان، ولكن ثقيل الوزن في ميزان القوى مع «حماس». وفي «حماس» فهموا هذا، وسعوا، الاسبوع الماضي، لجباية ثمن من اسرائيل. ولكن هذا الثمن في الصورة فقط: اطلاق قذائف الهاون والصواريخ كان حذرا وبتواتر متدن. وهو لم يوجه نحو مناطق السكان ولم يستهدف اصابة الجنود. وبالتأكيد لم يوجه لجر الجيش الاسرائيلي الى مواجهة قاسية. كان هدفه واحدا فقط هو ارسال رسالة الى القيادة السياسية في القدس والقيادة العليا في الجيش الاسرائيلي. وهذه الرسالة بسيطة: نعم، تلقينا منكم ضربة، ولكن لا تنسوا بأن في مخازننا آلاف القسامات. صحيح أن تهديد الانفاق تقلص، ولكن الصواريخ ستبقى تهددكم في كل مواجهة مستقبلية. وكل هذا يحصل، بالصدفة ام بغيرها، في الزمن الذي تعصف فيه الساحة السياسية في اسرائيل على هذه الخلفية بالضبط: خلف الزاوية ينتظر تقرير مراقب الدولة الذي يعنى بمعالجة القيادة السياسية والجهاز الامني لأنفاق «حماس». يستعرضون العضلات خلف الكواليس، ودون انتاج عناوين رئيسة، عمل رجال المخابرات المصرية على لجم الطرفين ومنع التدهور. من نواح عديدة، هذا اللجم لا داعي له. فلا أحد في غزة معني بالتدهور، ولكن الطرفين يرغبان في استعراض عضلاتهما قدر الامكان. والهدوء الذي وعدت به قيادة «حماس» جمهورها منذ الخميس بدأ يتثبت ببطء. تفاصيل الاتفاقات لم تسرب، وعلى رأسها مسألة هل ستحتمل حركة حماس استمرار اعمال الجيش الاسرائيلي على جدار الحدود، بضعة امتار في عمق الاراضي الغزية؟ ولكن مؤشرات العودة الى الحياة العادية سجلت لدى الطرفين. من تابع في نهاية الاسبوع الاصوات التي انطلقت من القطاع فوجئ بأن يكتشف سلسلة من التصريحات المثنية على اتفاق التهدئة الذي سيتحقق بعد بضع ساعات. واحداً تلو الاخر صعد مسؤولون في «حماس»، مثل موسى ابو مرزوق وخليل الحية، بل ممثلون عن «الجهاد الاسلامي» ليعدوا بان «الهدوء سيحل». «طلبنا من الطرف المصري أن يتدخل ويوقف العدوان»، قال ابو مرزوق، الخميس مساء، «كان الرد فوريا وعادت الامور الى مسارها». وفي غضون ساعات قليلة اطلق صاروخ آخر نحو الحدود مع اسرائيل، وأقلع سلاح الجو للرد. لماذا لم يحل الهدوء؟ للسبب الذي وصفناه آنفنا. يبدو أنه في «حماس» ايضا، القيادة العسكرية التابعة للقيادة السياسية ترفض السير على الخط حسب احتياجات السياسيين وتتبع سياسة خاصة بها. الذراع العسكرية لـ «حماس»، عز الدين القسام، تدير صراعا مستحيلا حيال احد الجيوش الاكثر تجهيزاً في العالم. واذا كان عليه أن ينقذ شرفه او يطلق رسالة ردع- مع كل الاحترام- فان السيد هنية، السيد ابو مرزوق، ورفاقهما سيتعين عليهم ان يعضوا على شفاههم وينتظروا بضعة أيام حتى تحقق الهدف. ورغم التطور الهادئ على الارض، هناك من يعتقد بأن هذا الهدوء ليس اكثر من ضمادة صغيرة ملصقة على جرح نازف. «بعيون مفتوحة تماما، نحن نسير نحو الجولة التالية»، يقول البروفيسور شاؤول مشعال، رئيس برنامج الشرق الاوسط في المركز متعدد المجالات في هرتسيليا، بل يجد في هذه النقطة الزمنية توازٍ معين بين غزة والقدس: دولة اسرائيل منقسمة ليس فقط اجتماعيا بل سياسيا ايضا»، قال في مقابلة مع صوت الجيش، أول من أمس، «الجيش يريد خطاً اكثر اعتدالاً، براغماتية، ولكن القيادة السياسية تريد الضرب فأكثر فأكثر. ومع الفرق، في طرف «حماس» يوجد التماثل المأساوي ذاته: الذراع العسكرية لديهم توازي الذراع العسكرية لدينا. فهي تسعى لتسير بقوة اكبر. وفي المقابل، الذراع السياسية لديهم توازي المؤسسة العسكرية في إسرائيل.