شهدت الأيام الماضية، بوادر تصعيد عسكري محدود بين إسرائيل، وكتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، وكان المبرر لهذا التصعيد، اكتشاف أنفاق هجومية جديدة على حدود غزة، حيث قامت الوحدات العسكرية الإسرائيلية، بالبحث عن الأنفاق على حدود مستوطنات غزة، وتقدمت الآليات العسكرية مسافة 100متر داخل حدود غزة، من أجل تكثيف جهود البحث عن الانفاق، وهذا التقدم يأتي حسب اتفاقية أوسلو. في المقابل تخشى إسرائيل، أن تشتد الأمور وتنزلق لمعركة جديدة مع غزة، قد تكون نتائجها كارثية عليهم، في حال فشلت مرة أخرى في حسم الأمور والسيطرة على القطاع.
فإسرائيل تحسب ألف حساب، لأية مواجهة عسكرية قادمة مع غزة، وينظرعن قرب على التطورات العسكرية الجارية في القطاع، والعمل المتواصل في البنية العسكرية والاستعدادات من قبل المقاومة الفلسطينية، لأي عدوان إسرائيلي جديد على القطاع، رغم أن القطاع، لم يتعافى بعد من العدوان الإسرائيلي الأخير عام 2014، الذي دمر أكثر من 10 ألاف منزل، ودمر المئات من المؤسسات، وغير الكثير والكثير من المعالم العمرانية في غزة.
إسرائيل تعرف جيدا ماذا تعني الحرب على غزة ؟ في ظل أوضاع سياسية مضطربة يعيشها الإقليم والمنطقة، وهو ما أكده "جدعون ساعر" وزير الداخلية الإسرائيلي السابق، الذي قال في تصريحات للصحافة العبرية، إن ما يجري على حدود غزة، ما زالت ردود أفعال على تهديدات حماس، دون اتخاذ أي مبادرة حقيقية من قبل إسرائيل، لتغيير الوضع تماما وإزالة التهديد المستمر".
إن عقدة الحرب على غزة، ماثلة دوما أمام رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو، والذي يواجه هذه الأيام انتقادات شديدة، وبإنتظار قنبلة سياسية من العيار الثقيل، وذلك بسبب التقرير الإسرائيلي السري الأخيرعن الحرب الإسرائيلية الأخيرة، والتي عرفت بمعركة " الجرف الصامد "، حيث أظهر تقرير مراقب الدولة في إسرائيل، إخفاقات كبيرة في الحرب على غزة، وقد وصفت القناة العبرية الثانية التقرير، بالقنبلة السياسية في حالة نشره على وسائل الإعلام وتناول هذه الإخفاقات، وقال المراسل السياسي للقناة العبرية الثانية، إن تقرير مراقب الدولة، يحمل في طياته إخفاقات كبيرة فاقت إخفاقات حرب لبنان الثانية، وأن التقرير يتحدث عن خلل كبير في أداء قائد أركان جيش الاحتلال آنذاك " بيني جانتس" ورئيس وزراءه نتانياهو، ووزير جيشه موشي يعلون، كما تحدث التقرير الإسرائيلي، عن تضليل مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر (الكابينت)، بصورة تسببت بإطالة أمد الحرب وعدم التوافق المطلق بين تقديرات رئيس الأركان، التي قيلت بثقة عالية، وبين ما حصل على الأرض.
إن تسريب النسخة الأولية السرية من التقرير الإسرائيلي للحرب الأخيرة على غزة، سيجعل نتانياهو، في مأزق كبير من اتخاذ قرار شن حربا جديدة على القطاع، في ظل الانتقادات الإسرائيلية الشديدة التي وجهت لـه بسبب الإخفاق الكبير في الحرب الأخيرة على القطاع، وعدم تحقيق الأهداف المنشودة في توفير الأمن والآمان لإسرائيل، في مستوطنات غلاف غزة ووقف حفر الأنفاق، ووقف التطور في البنى التحتية للمقاومة في غزة. الأمر الآخر المقلق لــ نتانياهو، هو مواصلة انتفاضة القدس، ومواصلة عمليات الطعن، بل تطورها في تنفيذ عمليات استشهادية في قلب المدن الإسرائيلية الكبرى، لذا فإن نتانياهو، قد يكون في وضع يحسد عليه، حال شن هجوما جديدا على القطاع، وبالطبع يستطيع تجنبه، في حال الالتزام بتنفيذ اتفاق الهدنة، والعمل على فتح المعابر مع القطاع ورفع الحصار.
بات جليا، أن نشوب أوشن حرب جديدة، يتوقف دوماً على توفر مركبات بيئة تفضي إلى نشوبها أوشنها. فتركيز إسرائيل على التجارب الصاروخية التي تجريها كتائب القسام، والحديث عن تمكنها من إعادة بناء الأنفاق الهجومية، لايعني بالضرورة، أن عرض هذه المعطيات دليل على نية حكومة نتانياهو، المبادرة لشن حرب جديدة، فإسرائيل تؤكد في الوقت نفسه، أن الحصارعلى غزة أسهم كثيرا في تقليص القدرات التسليحية لحماس في الوقت الحالي، كما أنه لايمكن لإسرائيل، أن تحقق هدفها الاستراتيجي المتمثل في تصفية بنية المقاومة في القطاع، من دون إعادة احتلاله بالكامل، أوعلى الأقل السيطرة على غزة.
فقد جزمت الوثيقة الاستراتيجية التي صاغها رئيس هيئة أركان الجيش جادي إيزينكوت، ونشرتها قيادة الجيش، في خطوة غير مسبوقة قبل خمسة أشهر، بشكل واضح وصريح، بأن أية حرب مقبلة على غزة، يتوجب أن تهدف إلى السيطرة على "مراكز الثقل السلطوي" لحماس، ومنظومات القيادة التحكم في جهازها العسكري. وقد جاء إصدار وثيقة إيزنكوت، رداً على الانتقادات التي وجهتها النخب السياسية والإعلامية في تل أبيب، لأداء الجيش خلال الحرب 2014، ولا سيما لعجزه عن حسم الحرب خلال 51 يوما. وقد تعاطت مراكز التفكير في إسرائيل، مع الوثيقة على أنها "سياسية"، تأتي في إطار المواجهة بين المستويين السياسي والعسكري في إسرائيل. فمن الواضح أن إزينكوت، يقول للمستوى السياسي، إن ضمان تحقيق الأهداف الاستراتيجية في أية حرب مقبلة ضد غزة، يتوقف على إعادة احتلال القطاع، وإن أي أمر بشن الحرب، لا يتضمن هذا التفويض يعفي الجيش من المسؤولية عن تحقيق هذه الأهداف. وتدرك دوائر صنع القرار في تل أبيب، الكلفة العسكرية والسياسية والاقتصادية الباهظة لإعادة احتلال غزة. لذا لم تكن مصادفة أنه، بإستثناء وزير الخارجية السابق ليبرمان، لايوجد من بين النخب اليمينة في إسرائيل، من يتحمس لخيار إعادة احتلال غزة. أما تسليط المستويات العسكرية الإسرائيلية الأضواء على مظاهر "تعاظم" قوة حماس، واستعادة بناء الأنفاق الهجومية، فيأتي تحديدا كإستخلاص للعبر من الحرب الأخيرة، حيث تم توجيه اتهامات للجيش والمخابرات الداخلية "الشاباك"، بأنهما لم يتمكنا من كشف الأنفاق، ولم يوفرا المعلومات اللازمة لتمكين المستوى السياسي من تحديد الأهداف التي يتوجب على الجيش تحقيقها في نهاية الحرب. ومما يقلص فرص شن الحرب أيضا، حقيقة أن دوائر صنع القرار السياسي في إسرائيل تعي تماما، أن حماس غير معنية بأية مواجهة مع إسرائيل، وأن في مقدمة أولويات الحركة حاليا، الحرص على ضمان توفير الظروف التي تقلص من تأثير الحصار الجائر المفروض على القطاع. وقد عبر إسماعيل هنية نائب رئيس المكتب السياسي لحماس، عن هذا التوجه، في حديثه أمام صحافيين في غزة، عندما أكد أن حركته غير معنية بأية مواجهة مع إسرائيل. في الوقت نفسه، لا يستند الرأي القائل إن إسرائيل، قد تلجأ إلى الحرب على غزة، للتغطية على فشلها في وقف تدهور عمليات المقاومة في الضفة الغربية إلى منطق سليم، حيث تتم عمليات المقاومة في الضفة الغربية بشكل فردي، ولاعلاقة للتنظيمات بها. ومن ثمً، لن يؤثر أي عمل عسكري في غزة على وتيرة العمليات، بل قد يفضي إلى تصاعدها.
أخيرا، ستبقى غزة شوكة كبيرة في حلق الإحتلال، والأيام القادمة سترغم إسرائيل، علي تقديم التنازلات تلو الأخري، من أجل تجنب أية معركة مع غزة، قد تخلق واقعا سياسيا مختلفا، وتفرض معادلة عسكرية جديدة على الأرض.
عن الاهرام