الكاتب: نبيل دويكات
ذهبت قبل أيام الى أحد البنوك من أجل إتمام بعض المعاملات المالية. توجهت عند دخولي البنك الى الآلة الموضوعة على المدخل الرئيسي وضغطت على المكان المناسب لكي أحصل على الرقم المتسلسل الذي يصنّف ترتيب دخولي كمراجع للبنك، ويحدد لي، ولأي زبون آخر، تسلسل ورقم المكتب أو الصندوق الذي سيحصل منه على الخدمة التي يقصدها. جلست في إحدى المقاعد المخصصة للانتظار وكلي أمل ألا يطول ذلك، حيث لاحظت أن الفرق بين الرقم الذي حصلت عليه والرقم على اللوحة الرئيسية هو ثلاثة عشر فقط، في حين كان هناك خمسة صناديق تعمل في ذلك الوقت. لدقائق فكرت في نفسي أن طريقة الأرقام المتسلسلة هذه طريقة تنظيمية راقية وحضارية، وتخفف عن المواطنين عناء الوقوف والتزاحم في طابور انتظار عند الذهاب للحصول على الخدمة.
مضت الدقائق بطيئة، ودون أي تغيير في الرقم، ثم عدة دقائق أخرى حتى وجدت نفسي اقضي ما يزيد عن نصف ساعة في الانتظار، لكن الجديد ان الأرقام لم تتغير، لا أريد الخوض في تفاصيل أكثر، لكن ما لاحظته وعلمته لاحقاً أن هناك عدة تصنيفات متدرجة للمراجعين للبنك. والجديد أيضاً أنه في كل الصناديق العاملة في ذلك البنك تعطى الأولوية لهذه التصنيفات حسب تسلسل تصنيفها وفق الأهمية. المهم أنني تمكنت من الحصول على الخدمة بعد أكثر من ستين دقيقة من الانتظار، بينما كنت الاحظ أن هناك من يحصل على الخدمة خلال دقائق معدودة ويغادر مسرعاً.
تذكرت أنه عند السفر يجري تصنيف المسافرين الى نوعين الأول هو تصنيف "الشخصيات المهمة" وأصبح معروفاً بإسم مختصر من أحرف كلمات اللغة الإنجليزية، والآخر المواطنين العاديين. تذكرت أيضاً أن التصنيفات والتقسيمات أصبحت معروفة، والى حدٍ كبير مألوفة في مجتمعنا وحياتنا اليومية، فهناك تصنيفات ماسي، ذهبي، فضي، برونزي، وتصنيفات "كبار" دون ان يرافقها صراحة تصنيف آخر مفهوم ضمناً هو “صغار".
وفي الاجتماعات والاحتفالات واللقاءات وحتى المظاهرات والمسيرات نجد ما يشبه هذه التصنيفات كالجلوس أو المشي مثلاً في الصف الأول أو الثاني، من يلقي الكلمة الأولى والثانية والأخيرة وغيرها.
هذا نجده في طيف واسع من المجالات مثل السياسة والفكر وحتى الزوار والضيوف والقادة والأسرى والمحررين والمناضلين وحتى الأموات والشهداء يتم تصنيفهم أيضاً، في المناسبات الاجتماعية المختلفة. تصنيفات لا أول لها ولا آخر، حتى وأنا أكتب خطرت ببالي فكرة أن أحدهم لديه "تصنيف" محدد للمقالات والكتابات وإمكانية وكيفية نشرها من عدمه. أعدت التفكير في هذا الأمر عدة مرات، محاولاً إيجاد سبب أو مبرر منطقي وعقلاني يدفعنا الى مثل هذه التصنيفات، هل هو لتسهيل تنظيم أمور حياتنا وتنظيم أفضل لعلاقاتنا؟! أم أن هناك أسباب أخرى؟!
الجواب الأولي الذي خلصت اليه هو أن معظم هذه التصنيفات ليس لها أي أسس واقعية مرتبطة بتنظيم وتسهيل علاقتنا وبنائها على أسس أكثر عقلانية ومنطقية. ربما هناك بعض الأسباب التي ليس هناك خلاف عليها من مثل القواعد والأسس التي تتبعها المؤسسات الربحية على اختلافها في إيجاد نظام حوافز ومشجعات لجذب وتحقيق قدر أكبر من الفوائد والأرباح، مع أن هناك جدل أيضا حول أفضل السبل والوسائل لتحقيق الأرباح دون التقليل من دور وأهمية وكرامة واعتبار أي مواطن.
الملاحظة الثانية أن معظم التصنيفات الظاهرة الصريحة منها والمبطنة الضمنية أيضاً أنها لا تقوم على أساس اجتماعي ومنطقي محدد سوى في ذهن ومنطق من يقوم بها فقط. السؤال هنا ينسحب على جملة واسعة من السلوكيات التي تحتاج الى الفحص والتدقيق، فما هي الفائدة التي يجنيها أي منا إذا كان يسير في الصف الأول من المسيرة؟ أو الجلوس في الصف الأول أمام المنصة؟ أو إلقاء الكلمة الأولى؟ وما الفائدة من إطلاق لقب عميد، سيد، كبير... على الشهيد؟ ونفس السؤال ينطبق على الأسير أو المحرر أو القائد السياسي والاجتماعي والنقابي. بل ما الفائدة الحقيقية إذا كان حتى المكان الذي يدفن فيه أحدهم مختلفاً عن مدافن بقية الأموات في نفس المكان؟
خلاصة القول إن هناك جملة واسعة من التصنيفات التي تصبغ غالبية سلوكيات وممارسات حياتنا اليومية تحتاج الى التفكير ثم إعادة التفكير فيها، وهي إما منظمة ومبنية على أسس مجحفة بحقوق قطاعات واسعة من المواطنين، وتحولهم من مواطنين لهم شخصيتهم وكرامتهم الإنسانية الى مجرد أرقام ونماذج جامدة وتفتقد الى أبسط أسس ومعاني الإنسانية. أما النماذج الأخرى فهي ليست سوى سلوكيات وطقوس يمارسها معظمنا دون أن تنطوي، أو في أحسن الأحوال دون أن يتساءل إن كانت تنطوي فعلاً على مغزى أو قيمة في تنظيم وتسهيل أسس وقواعد حياتنا وعلاقتنا، خلال سعينا من أجل بناءمجتمع أفضل. وفي كلا الحالتين فإن الأمر يقترب بصورة كبيرة من معنى ومضمون تلك الصفة التي يتداولها الكثيرون منا، همساً أحياناً، وعلناً في أحيان أخرى، تحت مفهوم "القطيع".