مسؤولية أوروبا تجاه نفسها وضحاياها

owkal rtalal
حجم الخط

في لقاء مع مسؤول أوروبي كبير جرى مؤخراً في غزة، اعترف بأن اوروبا قدمت للفلسطينيين اشياء جيدة لكن ما لم تقدمه كان سببا في توليد خيبة امل للفلسطينيين والاوروبيين على حد سواء. ويعترف المسؤول الاوروبي بأن الدول الاوروبية تراجع دورها كثيراً في منطقة الشرق الاوسط منذ العدوان الثلاثي على مصر عام ١٩٥٦، تاركة الميدان للولايات المتحدة الاميركية، التي تولت مسألة التركيز، والاستحواذ، يعني ذلك، ان وظيفة حماية ورعاية وتقوية المشروع الصهيوني انتقلت من الكتف الاوروبي الى الكتف الاميركي، الذي قدم لاوربا مساعدات نوعية لا يستطيع الاوربيون انكار اهميتها، خصوصا وان اوروبا كانت مثقلة بتبعات الحروب العالمية الاولى والثانية وفي زمن الحرب الباردة والصراع بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي. يلاحظ المسؤول الاوروبي مؤشرات تراجع الدور الاميركي في المنطقة وازاء ملف الصراع الفلسطيني العربي الصهيوني، ما يحفز اوروبا لتطوير وتصعيد دورها وتدخلاتها في هذه المنطقة. بالمعنى التاريخي فإن اوروبا هي التي تتحمل مأساة الشعب الفلسطيني فهي التي انتجت فكرة اقامة دولة غريبة بين بلاد الشام ومصر والمغرب العربي. وهي التي قامت بتنفيذ هذا المشروع الاستعماري انطلاقا من رؤية استعمارية مرتبطة بالمصالح والنفوذ والسيطرة ومرتبطة بالتخلص من التجمعات اليهودية التي رفضت الاندماج في مجتمعاتها. المخلوق الذي صنعته اوروبا لأغراض استعمارية ومصلحية، شب عن الطوق كثيرا، وتجاوز الحدود التي صممها الصانع، وذهب في اتجاه تمردي، من شأنه ان يلحق بنفسه وصانعه ومن تولاه بعد ذلك، مخاطر كبيرة. الرئيس الاميركي باراك اوباما ادرك عمق المأساة التاريخية، حين قال من على منبر جامعة القاهرة في السنة الاولى لولايته، ما معناه ان حل المسألة اليهودية انتج مسألة فلسطينية، باتت بحاجة الى معالجة. لكن جهود الولايات المتحدة لم تفلح هي الاخرى في ضبط حدود المشروع الصهيوني بما يسمح بمعالجة معقولة للمسألة الفلسطينية والتي يعبر عنها المجتمع الدولي برؤية حل الدولتين. الكل اليوم ممن صنع المخلوق ومن تبنى رعايته وتقويته، يشعر بخيبة أمل تجاه السياسة الإسرائيلية التي تقوض رؤية الدولتين، وهو ما عبر عنه المسؤول الأوروبي، وقبل أسابيع قليلة جو بايدن نائب الرئيس الأميركي في حديث علني نادر. ثمة قراءة موضوعية لمخرجات ونواتج التمرد الإسرائيلي لا بد ان تدق أجراس الخطر بقوة لدى العواصم الأوروبية ذلك ان إسرائيل التي تتجه نحو تحقيق الدولة اليهودية، وضم القدس ومعظم أراضي الضفة الغربية بالإضافة الى الجولان المحتل، انما تتجه فعليا نحو ان تكون دولة دينية عنصرية، لتحقيقها ستتورط إسرائيل بحكم طبيعتها، في ارتكاب المزيد من الجرائم التي لا يحتملها مجتمع دولي يفاخر بديمقراطيته، وبقيمة الحرية والعدالة الاجتماعية. على ان أوروبا ينبغي ان تستشعر الخطر المحتمل، ان لم تكن قد بدأت تستشعره الناجم عن تجاهلها لما يجري في ساحة الصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي من واقع كونها الجار القريب للمنطقة، والمعرض اكثر من غيره، للمعاناة في حال واصلت إسرائيل سياساتها. كان لافتا ان يدعو وزير الخارجية البلجيكي الذي زار قطاع غزة، قبل يومين، الى رفع الحصار نهائيا، وبصورة شاملة عن قطاع غزة، ومطالبة إسرائيل بتسهيل عملية إعادة الإعمار المتوقفة بسبب وقف تدفق مواد البناء. قد يبدو للبعض ان هذا التصريح، اقرب الى التقليد الدبلوماسي او انه يقع تحت ضغط المآسي الإنسانية التي شاهدها وقرأ او سمع عنها الوزير البلجيكي لكن المسألة لا تقف عند هذه الحدود، بل تذهب في اتجاه استشعار الخطر القادم. أوروبا تعاني الأمرين بسبب الهجرة الجماعية الكثيفة التي تدفقت بالملايين، على خلفية الصراعات الدامية التي تضرب المنطقة طولا وعرضا، وليس ثمة بديل عن أوروبا بالنسبة للاجئين الذين يبحثون عن الأمن والأمان، لا يعرف الأوروبيون متى وكيف يمكن التعامل مع هذه الموجات المهاجرة، فهم لا يرغبون في إدماجهم ولا هم قادرون على منعهم من الوصول او إرجاعهم خلال فترة قصيرة، قبل ان تظهر تأثيرات وجودهم على المجتمعات الأوروبية. يخشى الأوروبيون، من المأساة التي تسبب بها الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة، دون حساب للنتائج التي ستكون على حساب حلفائها، يخشى الأوروبيون من ان يؤدي ذلك لاحقا الى هجرة واسعة لمئات آلاف الفلسطينيين الى اوروبا، مصادر دولية هي من أشارت في تقارير سابقة الى ان قطاع غزة لن يكون صالحا للحياة بحلول عام ٢٠٢٠، وفي الواقع فإن نسبة عالية من سكان القطاع يرغبون في الهجرة عندما تتاح لهم الفرصة، بدون انتظار عام ٢٠٢٠، وبمعزل عن هذا الاستنتاج. ثمة خشية أيضا من ان المأساة التي يعاني منها سكان القطاع، تشكل موضوعيا البيئة الطبيعية لإنتاج ظواهر التطرف، ذلك ان الجار الجائع هو جار خطير كما قال يوماً شمعون بيريس. من الطبيعي في هذه الحال ان إسرائيل التي تحرص على امنها، اولا وثانيا وعاشراً، ولا تهتم بأمن الآخرين بما في ذلك حلفاؤها الذين يوفرون لها كل أسباب الحصانة، من الطبيعي ان إسرائيل هذه تسعى وراء تهجير الفلسطينيين باعتبار ذلك واحدا من اهم عوامل نجاح مخططاتها التوسعية والعنصرية. هل يشكل هذا التقييم الذي تعرفه أوروبا سببا في عودة مختلفة الى المنطقة بفاعلية اكبر؟ لا بد ان يبدأ  الجواب من ان على أوروبا ان تفعل ما لم تفعله وتسبب في تعميق مسؤوليتها تجاه مأساة الشعب الفلسطيني. باختصار أوروبا ودفاعا عن مصالحها ومستقبلها مضطرة لأن تستخدم نفوذها والتحرك سياسيا وليس إنسانياً فقط لضبط مخلوقها المتمرد حتى لو انها ستضطر لممارسة الضغط الفعال.