ما الذي يثير حنق أردوغان على الجامعة العربية؟

thumbgen (11)
حجم الخط
 

قبل أيام قليلة، تحدث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مؤتمر تركي-عربي للتعليم العالي بنبرة نقدية تناولت ضعف التبادل الثقافي بين الدول العربية وتركيا لكي ينتقل من هذا الموضوع إلى التحدث بنفس النبرة عن حال العلاقات بين الدول العربية وتركيا والدول الإسلامية عموماً. انتقد أردوغان بمرارة حال الانقسام والتشرذم التي تسود المنطقة. وأشار الرئيس التركي بكلمات قليلة أيضاً ولكن مفعمة بالدلالات والعبر إلى الجهة المسؤولة عن هذه الحال، فإذا بها الجامعة العربية التي تجسد الانقسام والتشرذم والتباعد بين الدول الإسلامية.

وإذ وضع أردوغان يده على الجرح وعلى مسبباته، فإنه أرفق هذا الاكتشاف بدعوة العرب إلى التخلي عن الجامعة العربية والتصرف حيال مسألة العلاقات الإسلامية - الإسلامية تماماً كما تفعل تركيا. إن تركيا الأردوغانية «لا تنشئ جامعة تركية»، كما فعل العرب، بل تكتفي بالعمل داخل «منظمة التعاون الإسلامي» التي تشكل النقيض الجاهز للجامعة العربية. ففي حين تغذي هذه الأخيرة، كما يصورها أردوغان، الانقسامات بين الدول الإسلامية، فان المنظمة تعمل على تنمية العلاقات بينها بحيث تستحق ثقة الزعيم التركي كإطار ملائم للقضاء على الشقاق بين دول المنطقة. استطراداً فإن أردوغان يرى أن العرب أمام خيارين: إما الجامعة العربية، أو الجامعة الإسلامية.

إن الكثيرين يتفقون مع أردوغان على ضرورة نبذ الانشقاقات والنزاعات غير المبررة وبخاصة المسلحة والمدمرة بين الشعوب والحكومات والقوى السياسية في المنطقة العربية أو في الدول الإسلامية وغير الإسلامية. وبينما يشاطره العديدون هذا الرأي فإن الكثيرين منهم لا يتفقون مع الرئيس التركي على نظرته إلى الجامعة العربية ولا يقرونه على موقفه الضمني تجاه الفكرة العربية التي قامت الجامعة على أساسها. فإذا أراد الزعيم التركي، من باب الالتزام بنظرته تجاه العلاقات بين تركيا والعرب، إقناع الآخرين غير المقتنعين بصواب نظرته التوحيدية، فحري به انسجاماً مع النفس ومع النصائح التي يوجهها إلى العرب، أن يبدأ بتطبيق الخطوات الآتية:

أولاً، ترتيب أوضاع البيت التركي نفسه عبر إعادة الوفاق واحتواء المنازعات ومظاهر الانقسام المقلق والمحزن التي تطغى على الحياة السياسية في تركيا. لقد بدأ الصراع في تركيا بين المدرستين السياسيتين: الكمالية والدينية، ثم انتقل الصراع إلى داخل تيار الأحزاب والقوى الدينية، ثم ما لبث أن انتقل إلى داخل أجواء حزب «العدالة والتنمية» بين مؤيدي أردوغان من جهة والمتعاطفين مع فتح الله غولن من جهة أخرى، حتى وصل الصراع إلى ذروته مع إخراج عبدالله غل من رئاسة الجمهورية، وتهميشه في الحزب الحاكم مع أنه واحد من مؤسسيه، وأحمد داود أوغلو من زعامة الحزب ورئاسة الحكومة مع أنه أبرز منظري السياسة التركية الراهنة. ولم تكن في هذه الصراعات مشكلة كبيرة مستعصية على الحل، فأمكن حصرها في الأطر الديموقراطية وحسمها بالأساليب السياسية وحدها. ولكن إلى جانب هذه الصراعات وبموازاتها نشب صراع بين النخبة الحاكمة من جهة، وبين حزب العمال الكردستاني ومع جماعات معارضة لجأت إلى السلاح لكي تحقق أهدافها السياسية، من جهة أخرى. وبسبب هذه الصراعات الأخيرة ومضاعفاتها وآثارها على أوضاع تركيا الأمنية، فإن تركيا اليوم باتت عرضة لانشقاقات ومواجهات دامية. ولا ريب أن هذا الوضع المؤسف ينال من مصداقية أردوغان كداعية سلم أهلي. إن أردوغان يحمّل الأطراف السياسية المعارضة له مسؤولية التوترات التي تطغى على تركيا اليوم، ولئن صحت هذه الاتهامات في مواضع متعددة فإنه لا يستطيع أن يتبرأ كلياً من تحمل مسؤولية الواقع التركي الراهن، ونمو الظواهر الانشقاقية والانقسامية في الجسم السياسي التركي.

ثانياً، أن يسعى أردوغان، وفي مقاربة مشابهة لتلك التي يستخدمها في الدعوة إلى حل الجامعة العربية والتركيز على منظمة التعاون الإسلامي، إلى دعوة الدول الإسلامية الأخرى إلى انتهاج نفس الطريق. وعليه هنا أن يبدأ بتركيا نفسها. فليس صحيحاً أنها ليست عضواً في منظمات إقليمية، أذ أنها عضو في منظمة التعاون الاقتصادي (ايكو) التي تضم فضلاً عن تركيا إيران وباكستان وأفغانستان وجمهوريات آسيا الوسطى. حبذا لو تذكر الرئيس التركي هذه الحال ولو دعا الدول الأعضاء- انسجاماً مع نظرته إلى الانشقاق والانشقاقيين- إلى دمج منظمتهم بمنظمة التعاون الإسلامي.

في إطار هذا السعي، وانسجاماً مع النفس، فالحري بالرئيس التركي أن يقود بلاده إلى الكف عن المطالبة بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وإلى التأكيد على أنها لم تعد معنية بتطبيق «معايير كوبنهاغن». في الإطار ذاته يصبح من الطبيعي أن يطلب الزعيم التركي من سائر الدول الإسلامية أن تنسحب من المنظمات الإقليمية التي تضمها لكي تصب كل جهودها في دعم وتطوير منظمة التعاون الإسلامي. هذا يعني أن تخرج إندونيسيا وماليزيا من «آسيان»، وأن تخرج نيجيريا والسنغال وعدد كبير من الدول الأفريقية من الاتحاد الأفريقي وأن تحصر هذه الدول جهودها في إطار منظمة التعاون الإسلامي.

ثالثاً، إعلان انسحاب تركيا من الحلف الأطلسي. كان هذا الحلف ولا يزال أداة انقسام وانشقاق في المجتمع الدولي. لقد ولد الحلف من رحم الحرب الباردة وكان أداة رئيسية من أدواتها، ووسيلة رئيسية من وسائل تثبيت هيمنة دول الحلف على مناطق واسعة من العالم. وبدلاً من حل الحلف، أو تحويله إلى منظمة اجتماعية - اقتصادية، كما اقترح سياسيون ومفكرون عالميون، بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار حلف وارسو، فإن الاتجاه هو اليوم نحو تقوية الحلف كأداة عسكرية ذات أهداف توسعية وانشقاقية. وهذا الاتجاه الذي سوف تبرز معالمه بوضوح في قمة الأطلسي المقبلة خلال شهر تموز (يوليو) المقبل سيؤدي بالضرورة إلى تشبث الصين وروسيا بمنظمة شنغهاي وإلى العمل على تطويرها كوريث لحلف وارسو ومن ثم إلى تعميق الانشقاق والانقسام في المجتمع الدولي،

إن تركيا اليوم تلعب دوراً مهماً في الحلف الأطلسي وبالتالي في هذا المسار، وتزداد أهمية القوات المسلحة التركية في الأطلسي لأسباب عدة منها أن الجيش التركي، هو كما هو معروف، هو أكبر الجيوش العاملة في إطار الحلف بعد الولايات المتحدة. ومنها أيضاً تردد الدول الأخرى، بما فيها الولايات المتحدة، في الزج بقواتها البرية في الصراعات الإقليمية والدولية، ومنها فضلا عما سبق اهمية تركيا من الناحية الجيوسياسية في الوقت الذي تشتد فيه الصراعات والنزاعات المسلحة في منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومنها أخيراً أن تركيا قادرة على الاضطلاع بدور رئيسي في دحر الإرهاب الدولي الذي يرتدي طابعاً إسلامياً.

إذا أراد أردوغان أن ينسجم مع نفسه ومع موقفها تجاه جامعة الدول العربية وما تمثله الجامعة، فحري به أن يقود بلاده إلى الخروج من الحلف الأطلسي وأن يدعو دول العالم الأخرى غير الإسلامية إلى صب كل جهودها على العمل من أجل السلام العالمي عبر منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن وتعزيز المؤسسات الأمنية والدفاعية التابعة لهما واللجنة العسكرية التابعة لمجلس الأمن والتي تضم رؤساء أركان جيوش الدول الدائمة العضوية في المجلس.

بالطبع لا نتوقع من أردوغان أن يقدم على أية خطوة من هذا النوع. إذن ما الذي يزعج أردوغان وما الذي يثير حنقه على الجامعة العربية؟ إن تمسك الدول والمجتمعات العربية بالفكرة العربية على رغم كل التراجعات والضغوط التي مورست على العرب للتخلي عن هذه الفكرة يفسر إلى حد بعيد ضيق الرئيس التركي بها. إن هذه الفكرة لا تمنع التعاون بين أي بلد عربي وتركيا بل على العكس إنها تحض على التعاون مع دول الجوار طالما أنها تروج للتعاضد الإقليمي. ولكن، للأسف، فإن بعض الزعماء الأتراك، مثل بعض الزعماء الإيرانيين، يجدون في الفكرة العربية وفي الالتزام بها حاجزاً يحول دون بسط سلطانهم على الدول العربية، وهذا في نظرهم سلوك انشقاقي وانقسامي وجب وضع حد له.

عن الحياة اللندنية