كم منّا سيشارك في إحياء ذكرى النكبة الثامنة والستين، وكم منّا يعرف أحداثها، وهل تمثل لنا الشيء الكثير، وهل «شعائر» إحيائها التقليدية قاعدة ليس لها استثناء؟
شخصياً لا أحتاج ليوم في السنة لأتذكّر لجوء عائلتي، ولا كوني لاجئاً أنا وأبنائي، نحمل بطاقة من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، وهي بالمناسبة وكالة فريدة في عالم الأمم... كأنها فُصِّلَت تفصيلاً للشعب المُهجَّر الذي دفع ثمناً لم يدفعه شعب آخر في القرن الماضي أو بداية هذا القرن. وعلى الرغم من الآلام التي يُكابِدُها كثير من الشعوب، وخاصة العربية، فإن الأمل يظل مشرعاً بالعودة إلى مسقط الرأس.
السؤال: هل سنظل نحيي ذكرى النكبة بالبكائيات والخطابات والكلمات النارية، التي يبحّ فيها الصوت، في لعن الإرهاب الصهيوني، الذي ارتكب أبشع المجازر، سرق الأرض وهدّد العرض... وأيضاً هل ستقتصر مظاهر الإحياء على مسيرات وتجمُّعات لسويعات ثم ينفضّ «المولد» ويعود كل إلى بيته، وكفى الله المؤمنين القتال!
الإجابة عن السؤال، هي تكمن في ضرورة البحث عن مظاهر إحياء خلاقة، تبتعد قليلاً عن التقليد الذي لم يعد يرى في الذكرى إلاّ يوماً تملأ فضاءه الأحزان والدموع والآهات على ما ضاع أو «ضيّعونا إياه».
أولى هذه المظاهر، هي تعميق الثقافة بالقضية الفلسطينية بشكل يقوم على نقد التاريخ وليس سرده... وهنا ما زلت أتذكّر مقولة للأستاذ الدكتور إبراهيم أبو لغد «مشكلتنا أننا نسرد تاريخنا، ولا نقرؤه قراءة نقدية قادرة على الاستفادة منه... تعميق الثقافة بأشكالها كافة، من أجل خلق وعي سياسي ومجتمعي قادر على مواجهة تبعات النكبة ولو بعد ألف عام... إضافة إلى الثقافة، لماذا لا تكون هناك فعاليات شبه دائمة لترسيخ كل ما هو جميل وحضاري يمثل فلسطين قبل النكبة من دور السينما، والمسارح، والإعلام، (فنحن ثاني دولة على المستوى العربي تكون لنا إذاعة) والمستشفيات المتقدمة، والمدارس (حيث كان يفتخر الفلسطيني بالتعليم بل هو الذي ساعد اللاجئين في إيجاد مصادر دخل لهم من خلال أبنائهم الذين مارسوا مهنة التعليم في كثير من الأقطار العربية، وخاصة الخليجية)... .
وليكن التركيز على التنوّع المذهبي والطائفي في فلسطين تحت قاسم مشترك أعظم وهو الوطن.
نحن نريد أن نغرس في وجدان أطفالنا أو الجيلين الرابع والخامس أساسات غير قابلة للاهتزاز عن أسباب النكبة، ولماذا وقعت، وكيف لنا أن نواجهها، حتى لا نعاود السقوط.
ولكن للأسف، فإن الشعب الفلسطيني مرّ بعد نكبة العام 48 بمجموعة من «النكيبات» والتي حققت للاحتلال المغتصب ما لم يتوقعه.
من بين النكيبات، الانقسام الذي لا بوادر حقيقية لإنهائه، ربما لأن المستفيد الأول والأخير منه هو الاحتلال، وكأننا عملياً من يعمل على تحقيق مصالح إسرائيل. ولا أدري كيف سنتمكن من إزالة آثار النكبة ونحن غير قادرين على الحدّ من مظاهر هذا الانقسام؟!
أما النكيبة الأخرى، فهي حالة «الفوضى الناعمة» التي تضرب كياننا الوطني الفلسطيني بأشكال متعددة، وممارسات تهدف إلى «صوملة» فلسطين، بل إن كثيراً من العرب والعجم لا يرون في قضيتنا الفلسطينية أكثر من صومال مُصغّرة.
حالة «الفوضى الناعمة» لم تكن وليدة ساعة أو أيام بل هي نتاج سنوات طوال أساسها اتفاق «أوسلو»، وقططه السمان، الذين لم يعودا يرون في فلسطين إلاّ فرصة استغلال وليس استثمار.
النكيبة الثالثة، هي حالة اللاسلم واللاحرب التي تورطنا فيها، فنحن لم نعد قادرين على تحقيق السلام، لا برؤية الدولتين ولا الدولة الواحدة، وحتى لا شيء يذكر. وأيضاً أصبحت حالة الحرب توصم بالإرهاب، حتى المقاومة يجب أن تلحقها كلمة شعبية، أي مقاومة شعبية، ومن يريد غير ذلك فهو...؟!!
إذن، في ذكرى النكبة... نتحدث عن نكيبات كلها تغلق الأفق، بل تساهم في قتل قضية اللاجئين وتقزيم حق العودة ولو حتى صحراء النبي موسى؟!
ملاحظة: في ذكرى النكبة يعلن منظمو الفعاليات عن إطلاق صفّارات الإنذار حتى يقف الجميع دقيقة حداد أو دقيقة ذكرى، ولكن كم هي نسبة الالتزام... انظروا إلى الشوارع وحركة المرور وتصرُّفات الناس... فإذا كنا غير قادرين على الفعل، فالأفضل ألا نطالب بالفعل؟!!