في الأمسية التي أحياها محمود درويش في حيفا في 2007، حصلت مفارقة اعتــــرف محمود نفسه أمامي بأنها من أصــعب ما حدث له مع جمهور. بعد أن أنهى قراءة قصـــائده على مدار ساعة ونصف الساعة شاحناً القاعة وحيفا والكرمل بطاقة لا تُحدّ، يُرافقه «الثلاثي جبران» على العود، وقف جمهور غفير من الحضور وطالبه ملحّاً بــقراءة «أحنّ إلى خبز أمي». وهذا عِلماً أنه كان اشترط عشية وصوله أن يختار هو بنفسه قصائده وترتيب قراءتها وفق مزاج الجمهور وتلقيه. خرج من المنصّة ثم عاد مُرغماً ليقرأ القصيدة، وليس بكثير من حماس أو رغبة. فمرّ حرجه إليّ وإلى غيري من الجالسين قرب المنصّة.
يُمكن تفسير ما حصل أن أهل حيفا من فلسطينيي الداخل أرادوا أن يتصلوا بشعر محمود درويش من الموقع الذي يشغلونه في الحالة الفلسطينية. فإذا حنّ درويش إلى أمه فإنه يكون قد حنّ إليهم! أو أنهم يحبون هذا النص من دون غيره حباً جماعياً، بخاصة أنه مسكون بالحنين من أوله إلى آخره، وهم في حنين إلى وطن وقع تحت سيادة الآخر.
لكنني رأيت في ما حصل رفضاً منهم لما قام به محمود درويش من تجاوز لنصه وذاته خروجاً عن المألوف الذي نشأوا عليه ونهلوا منه في كنف الحركات الوطنية والخطاب الفلسطيني المتداول. كأنهم قالوا له بوقوفهم وغِنائهم «أحن...»، وقالوا بإلحاحهم: «عُد بِنا إلى الهوية التي اعتدنا وعلى المناطق التي ألفنا ولا تغرّبنا عن أنفسنا بنصوصك الجديدة»! أو «دعنا حيثما نحن بسلام ولا تقطع علينا طمأنينتنا ولا تفرض علينا تحديات خُضتها أنت وبلغت بها ما بلغت».
أؤوّل الأمر في هذا الاتجاه بناء على محادثة طويلة غداة الأمسية دعاني إليها درويش وسمعت خلالها شكواه وارتباكه من إلحاحهم عليه المكوث حيث هم وإعادته إلى تخوم غادرها هو.
هذه الحادثة، برأيي المتواضع، تشكّل مُجمل الحالة الفلسطينية، لا سيما ما يتصل منها بالهوية والخطاب والثقافة. أقول هذا ونحن على مرأى من مراسم وطقوس وفاعليات إحياء ذكرى النكبة. فهي، على أي حال، تشـــكل نصاً ما يُمكننا أن نُعمل فيه أدوات التأويل والتفسير كما في نصوص درويــــش. ففـــي هذا النص محوران رئيسان يعودان على نفسيهما كل عام في مثل هذه الأيـــام. في المحور الأول، تأكيد الماضي وما شهده من حدث مُصمّم لوعي الفلسطينيين ووجدانهم. وفي المحور الثاني، تأكيد حق العودة غير القابل للتصرّف أو التقادم.
يبدو الأمر طبيعياً بالنسبة إلى شعبٍ نُكب بالتهجير والاقتلاع. بل طبيعي جداً في ضوء سياسات إسرائيلية رافضة لأي تسوية، استأنفت نزعة الاستحواذ وتلك الاستعلائية المتغطرسة مستفيدة من «وهن العرب» وويلاتهم الحاضرة في دول الجوار. لكننا على اعتقاد راسخ بأن الأمر تعدّى هذا وذاك ليُشكّل حالة خطيرة في حياة الجماعة الفلسطينية.
فالمحوران الآنفان يشكلان مجتمعين نزعة فلسطينية مَرَضية تماماً، قوامها الاستكانة إلى الضحوية في جهة منها، أو إلى خطاب لفظي عالٍ غير قابل للحياة يجسّد هذه الضحوية ولا يُنهيها. وهناك صلة وثيقة بينهما. يبدو لي أن الوكلاء الفاعلين أخطأوا في مَحوَرة بناء الهوية على الحدث المصمم وحده، أي النكبة. لأن فيه طبقات خطرة كأن يستكين الفرد والجماعة إلى حالة الضحية مثلاً، والتي تُعطيه شعوراً بأنه على حق دائماً. ولأن الاستكانة هذه أنتجت أنماطاً مُقلقة في الثقافة الفلسطينية، والعربية أيضاً. فكم دولة عربية حصرت اهتمامها بالفلسطينيين اللاجئين بإيوائهم عندها من دون أن تفتح أمامهم أي أفق؟ وكم مسؤولاً فلسطينياً أو حركة أو رمزاً قمعوا وشرّقوا وغرّبوا رافضين أي نوع من المساءلة أو النقد أو الاعتراض؟ وكم من العنف الداخلي الفلسطيني شهدنا بدعوى الالتزام بإرث النكبة واستحقاقاتها؟
هذا من ناحية، أما من ناحية ثانية، فالبقاء ضمن قبضة النكبة والمراوحة في المكان بغير فعل جدي، دفعا البعض، ولغرض التعويض، إلى إنشاء خطاب عالي الألفاظ بخصوص حق العودة، مثلاً. هذا علماً بأن ما يُطرح في العادة غير قابل للحياة، على الأقلّ في المدى المنظور. وكلما سمعتُ أحدهم يتحدث عن هذا الحقّ بعنجهية وبغطرسة المحروم والمُستضعف أيقنت أننا سنظلّ في إطار النكبة عقوداً إن لم يكن قروناً أخرى.
بحجة استحقاقات النكبة، أبقى العرب جميعاً على مخيمات اللاجئين الفلسطينيين التي شكّلت وتشكّل وصمة عار. بل حتى الفلسطينيون أنفسهم في مناطق «محررة» مثل مناطق السلطة الوطنية أو غزة، أبقوا على هذه المخيمات للتدليل على وجود القضية أو النكبة بوصفها جريمة الصهيونية! هذا وكان الأجدر بالعرب والفلسطينيين أن يدمجوا مخيم قلنديا أو الدهيشة برام الله، ومخيم عايدة ببيت لحم، إلى آخــر مخيّم، وترميم حياة الناس هناك وتضمـــيد جرحهم وتحقيق بعض الرفاهية لهـــم. يكفـــي أن نفــــهم ما الذي حصل في حال المخيمات هذه لنعرف أي ظُلم أنتجت ثقافة النكبة في سياسات العرب والفلسطينيين. كأنه إذا تحسن وضع الناس في قلنديا، خفّ وهج المسألة الفلسطينية أو كأنه إذا عمّرنا أحياء جديدة بديلة مكان مخيّم جباليا في غزة التقينا والمشروع الصهيوني!
هكذا نشأ وضع فيه من الإجحاف والغبن التاريخي مما هو من صنع أيدي الوكلاء الفلسطينيين والعرب أنفسهم بحقّ الفلسطينيين عموماً وأهالي المخيمات بوجه خاص. قالوا لأهالي المخيمات: ابقوا في أماكنكم لتظلّ القضية ساخنة!
وعليه، سنقترح على وكلاء التغيير الفلسطينيين أن يخرجوا من النكبة ويُخرجوا شعبهم من إسارها بهذا المعنى. لأن البقاء في نص «أحنّ إلى خبز أمي» لن يُطعمهم خبزاً ولن يمنح للأجيال القادمة من الفلسطينيين أجنحة للتحليق الحرّ وتحقيق الذات وتحسين شروط الحياة. وما حصل لمحمود درويش من انعتاق شعري أدبي إبداعي بعد نصه ذاك سيحصل للجماعة الفلسطينية إن هي أحسنت الخروج السريع من ندبتها ومن الاستكانة إلى راحة الضمير والتحرر من المساءلة داخل موقع الضحية المُطلقة.
وهنا لا بدّ من المكاشفة الذاتية والجزم بأن التحرر من سلطة الاحتلال ومشاريع الهيمنة لا يتمّ إلا بالتحرر من قيود الذات وروايتها الداعية إلى الاستكانة. الذاكرة وحدها لا تكفي للتحرر مهما كانت خضراء. الماضي مقتل الثقافة العربية وحذار أن يُصـــبح الماضــــي الفلسطيني مقتل القضـــية الفلسطينية وباباً موصداً أمام أجيــــال من اللاجئيــــن والمُقيمين. لقد شبع الفلـــسطيني رموزاً ومراسم وطقوساً تقدّس الضحوية وباتت أجياله الجديدة في حاجة إلى عمل خارج الكلام العالي. فلنفرض أن ما يحصل في رام الله وجنين والخليل ونابلس الآن سيتواصل ويتعزز ويمتد إلى الريف الفلسطيني، هذا ريثما يتحقق المشروع الفلسطيني المأمول! ماذا لو انتقل سكان المخيمـــات إلى أحياء جديدة يتم تعميرها خصيصـــاً لهم؟ ماذا لو تــم الاستثمــار فــي الإنسان الفلسطيني وفق خطط مدروسة لتحقيق نوع من الاقتدار الفردي الكمي الذي لا بدّ أن يصير نوعياً في مرحلة ما. عندما يكون الفلسطيني أقوى اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، ستكون قضيته أقوى بالضرورة، وليس العكس.
عن الحياة اللندنية