في ظل غياب صوت المعارضة في إسرائيل، على عكس ما كان متوقعاً، خاصة بعد منافسة العمل _اليسار والوسط _ عموماً، لتحالف اليمين واليمين المتطرف، في الانتخابات الأخيرة، ظهر صوت معارض من الجيش، في واحدة من «نوادر» المجتمع الإسرائيلي، ربما في محاولة من هذا المجتمع لوقف حالة التآكل في صورة إسرائيل بالخارج، وربما في سياق محاكاة مجتمعات الشرق الأوسط، حيث تقترب إسرائيل بعد نحو سبعة عقود من إقامتها من أن تشبه بالجوهر والطبيعة هذه المجتمعات، خاصة تلك التي تقف فيها مؤسسة الجيش كواحدة من أهم مؤسسات المجتمع _ والجيش في إسرائيل واحد من أهم مؤسسات الدولة _ في مواجهة أحزاب اليمين، حين لا يجد اليمين من يقف في وجهه، كما حدث في مصر وتركيا بين الجيش والإخوان في مصر وبين الجيش والإسلاميين في تركيا، بعد أول فوز لهم بقيادة نجم الدين أربكان! رد مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو على تصريحات نسبت لنائب رئيس هيئة الأركان يائير غولان، في أنه يرى في إسرائيل وجوداً للظاهرة التي كانت سائدة في أوروبا قبل المحرقة، كان عنيفاً، وصل لدرجة استدعاء وزير الدفاع موشيه يعالون، بعد دعمه لموقف قادة الجيش (غادي إيزنكوت رئيس الأركان ويائير غولان نائبه)، وبعد أن أصدر مكتب رئيس الوزراء بياناً هاجم فيه تصريحات غولان. في الحقيقة لا يمكن القول إلا: إن إسرائيل تعيش حالة من الهدوء الحذر، فرغم حالة الانقسام النموذجية على الجانب الفلسطيني، ورغم حالة الإقليم المثالية بالحروب الداخلية وانشغال العرب والمسلمين عن إسرائيل، إلا أنه لا يمكن القول: إن إسرائيل تعيش بدعة ودون قلق، وكما يقول المثل « اللي في بطنه عظام بيحسس عليها»؛ فهي تدرك أكثر من غيرها، بأنه طال الزمان أو قصر، وبغض النظر إن كان هناك _ وفق منطقها _ شريك فلسطيني للحل أم لا، لا بد لها أن تجد حلاً لاحتلال دام أكثر من نصف قرن حتى الآن. وحتى لو أنها استطاعت أن تجد حلاً أحادياً في لحظة ما، فإن لكل شيء ثمن. الحل مع وجود شريك له إيجابياته وسلبياته على إسرائيل، كذلك الحل الأحادي له إيجابياته وسلبياته عليها، نقول: حتى لو أنها وجدت اللحظة المناسبة لإيجاد حل أحادي في الضفة الغربية، فإنها بالتأكيد ستجد إيجابيات هذا الحل في أنه سيكون حلاً كما تهوى، ولن يجد معارضة داخلية، لكنه بالمقابل لن يكون حلاً متفقاً عليه مع الجانب الفلسطيني ولن يلزم فلسطينياً واحداً، كما أنه لن يعترف به دولياً، وبهذا المعنى فهو حل مؤقت، لن يقف في طريق المقاومة الفلسطينية _ محتملة الحدوث في أي لحظة _ للاحتلال، ولعل في تجربة إسرائيل مع الانسحاب من جانب واحد من قطاع غزة، درس يتوجب عليها أن تعيه جيداً. يبدو أن الوعي في إسرائيل يتزايد بإدراك خطورة استمرار تحالف اليمين التقليدي «العلماني» في إسرائيل مع اليمين المتطرف والطائفي، ومع «ممثلي المستوطنين»، نواب البيت اليهودي، ذلك أن تحول إسرائيل إلى دولة دينية متشددة ومتزمتة، لا يضر بمصالح الجانب الفلسطيني ولا بفرص التوصل لحل سياسي معه وحسب، ولكن يضر بمستقبل إسرائيل كدولة، في عالم يلفظ فيه بالتدريج ظواهر التطرف والكراهية مع تزايد مظاهر العولمة والتداخل بين المجتمعات ممثلة باجتياز الحدود على صعيد التبادل التجاري والثقافي بالتواصل الإلكتروني وتزايد معدلات الهجرة بين الشرق والغرب، الجنوب والشمال. وغني عن القول: إن قوة اليسار الإسرائيلي كانت مترافقة مع وجود عالم ثنائي القطبية، ثم مع وجود مقاومة فلسطينية عسكرية / سياسية، خلقت حالة من التوازن داخل إسرائيل، لدرجة أن الانتفاضة الأولى كانت أحد عوامل تشكيل اليسار «حزب العمل مع ميرتس» وشبكة أمان عربية عام 1992 للحكومة بعد حكومات ليكودية متتابعة، وحيث أن الجبهة الفلسطينية منقسة الآن، وبالكاد استطاعت أن «تعيد» اليسار للمنافسة في انتخابات الكنيست العام الماضي دون أن ينجح بالفوز، إلا أن النار تحت الرماد، حيث سرعان ما اندلعت هبة السكاكين بعد أشهر قليلة من تلك الانتخابات. وبعد عدة أشهر، بدأ قادة إسرائيل بالتبجح بإعلان أن هبة السكاكين قد خبت، وأنه تم احتواؤها، لكن الرد جاء ليقول: إن خفوت منسوب تلك الهبة لم يكن إلا استراحة محارب، فبعد أن أبدع الفلسطينيون في أشكال التعبير عن تمسكهم بوطنهم في ذكرى النكبة، وفي كل مكان بما في ذلك تل أبيب، عاد الشبان الذين لم يولدوا في قراهم المحتلة عام 1948، ولم يولدوا خلال أو قبل حرب حزيران، كما لم يولدوا حتى إبان توقيع أوسلو، ليقاوموا المحتل الإسرائيلي لأرض دولة فلسطين، وعاد الضغط الشعبي على قيادات الترهل الرسمية المسؤولة عن الانقسام، خاصة في «حماس» و»فتح»، لتشير إلى أن حالة داخلية مشابهة لما حدث عام 1987، ستحدث في هذه الأيام، فما دام الشعب الفلسطيني بنحو نصف تعداد سكانه مقيماً داخل حدود فلسطين التاريخية، وما دام نصفه الآخر بمعظمه في دول الجوار، وما دامت ذكرى نكبة العام 1948 ماثلة، تعيد الصراع لمربعه الأول، فإن عيناً إسرائيلية واحدة لن تعرف النوم، إلا بعد أن يقيم الشعب الفلسطيني دولته، وبعد أن يعود كل فلسطيني إلى مسقط رأسه، ولا خيار لإسرائيل، إلا أن تعيش بسلام دون احتلال أو حرب، ولا خيار لليهود الإسرائيليين إلا أن يعيشوا هنا وفق منطق المساواة، دون حقد أو كراهية، فلم يكونوا أصحاب بيت ليفرضوا على الغير منطقهم ولا في أي يوم من الأيام.