أشفق على الدولة أو مجموعة الدول التي بدأت تشمر عن سواعدها استعداداً لتوسيع أو تعميق احتمالات توليها قيادة «النظام الإقليمي» في السنوات المقبلة. أشفق عليها لأنني أخشى أن لا تكون لديها الإجابات الشافية على عدد من الأسئلة التي تشغل الآن بالَ كثير من المتخصصين في الشأن العربي، أجانب كانوا أم عرباً. لا شك في أن كثرة الأسئلة وشدة الاهتمام، كما اتضحت في عدد الدراسات والمقالات التي تراكمت على مكاتبنا تنتظر منا تحليلها واستخلاص ما يفيد في تحسين أدائنا، تؤكد أن جامعة الدول العربية تقف عند مفترق طرق، أحدها مسدودة نهايته. والثاني شديد التعرج بانحرافات شديدة وسلامته مهددة من كلا جانبيه بوحوش كاسرة وعصابات خطف وترويع. والثالث تغطي مداخله ومسالكه لوحات وإشارات تحذر من انسدادات عدة تعطل المرور فيه بسبب كثرة ادعاءات أو أعمال إصلاح تفتقر إلى النيات الصادقة، وربما ينقصها الفهم الواقعي لحال الإقليم وأحوال أممه وشعوبه وحكامه.
الأسئلة كثيرة، واختيار الأهم منها عملية معقدة وصعبة، بل أجدها حسّاسة في بعض أركانها. أضرب مثلاً بالسؤال التالي: كان هناك «نظام إقليمي عربي»، قامت من أجل دعمه وتثبيته، «منظمة إقليمية» هي جامعة الدول العربية. ارتبطا، أو قل التحما، عضوياً حتى اختلط الأمر على الناس جميعاً وحتى على مسؤولين في الحكم، حتى راح بعضهم يكتب أو يتحدث عن واحدة وهو يعني الأخرى. أما وأن الأمر الواقع لم يعد كما كان. هل يصح الآن للاختصاصيين في الشؤون العربية والعلاقات الدولية استمرار التفكير والعمل انطلاقاً من مسلَّمة أن نظاماً إقليمياً عربياً لا يزال قائماً؟ وإذا كان لدينا الآن شك كبير في وجوده، فهل يمتد بالضرورة فيثير الشكوك من جديد في سبب وجود الجامعة العربية؟ العكس أيضاً صحيح، هل يكون «الشلل» أو ما يشبهه من أمراض وتخريبات تعرضت لها الجامعة العربية في المراحل الأخيرة يعكس في حقيقة الأمر شلل النظام برُمته وربما انفراطه وانهيار أساساته وقواعده وعقائده ومبادئه؟
ماذا يحدث لهذه الأمة لو أن الحكام العرب الذين يستعدون الآن لتحمل عبء قيادة العمل العربي تهربوا من الإجابة عن السؤال وأسئلة مشابهة؟ هل سيكون جائزاً عندئذ أو ممكناً استمرار العمل بالميثاق الذي وضعه القادة العرب في الأربعينات، أو أن مستشاريهم سينصحون، تهرباً من المسؤولية التاريخية، بطرح تعديلات على هذا الميثاق تحت عنوان فقد كثيراً من قيمته، وهو تطويره؟ إن التفكير في ميثاق جديد، أو حتى تعديل الميثاق القائم، يطرحان أسئلة أخرى لا يمكن إهمالها. لا أتصور مثلاً أن يجلس عباقرة القانون والدساتير الدولية حول طاولة لمناقشة ميثاق جديد للجامعة وليس لديهم تعريف، ولا أقول دقيقاً، لشكل الإقليم وحدوده الجغرافية والبشرية وتعريف دقيق لهوية الأمة. هل تنطبق صفة العروبة الآن على هذه «الأمة»، أم أن هناك «أمماً» عربية كثيرة لا تحمل واحدة منها سمة العروبة أو تتقيد بشروطها ومواثيقها؟ هل تنفرد هذه الأمم العربية الكثيرة بسكنى إقليم ما، أم أن أمماً أخرى غير عربية تشاركها السكنى فيه ولها فيه حقوق وتراث وثقافة، وبعضها لن ينفع بعد ثورات الربيع الاستمرار في تجاهل وجوده، كما حدث خلال الثمانين عاماً الماضية؟
أذكر جيداً عبارة كثيراً ما كان يرددها الزعماء العرب في قاعات جامعة الدول العربية عندما كانوا يتحدثون عن العلاقات مع الخارج أو عند التعرض لقضايا احتلال إسرائيلي، كانوا يبدأون مداخلاتهم بعبارة «نحن كعرب»، ناسون أو متناسون أن في القاعة رؤساء وممثلي دول من غير العرب، يتحدثون بالإيطالية والفرنسية. هؤلاء الرؤساء والممثلون كانوا في مجموعهم يمثلون قطاعات واسعة في أمم غير عربية. أذكر هذا وأنا أدرك أن كثيرين سيستمرون في التحدث وإصدار قرارات باسم العرب في المستقبل في حال استمرت المنظمة، ولكن هل يتوقع أن تقبل «الأمم» الأخرى باستمرار هذا الوضع؟ أتصور أنه سيتعين على «العرب» وضع تعريف لهويتهم. انتهى زمن قبول «الآخرين» في الإقليم أو في الدول «العربية» التعريفات الفضفاضة التي ساقتها أنظمة حكم تعمّدت تهميش هويات أخرى، دينية مثلاً أو مذهبية أو وطنية.
سؤال آخر يطرح نفسه بنفسه هذه الأيام، عن وضع «العدو» الذي تحتشد ضده الدول الأعضاء في «النظام الإقليمي العربي» وتقيم التحالفات لحماية نفسها من شروره. لا يحتاج الأمر إلى ذكاء خارق أو قدرات استخباراتية لمعرفة أن محاولات تجري الآن لوضع صياغة جديدة أو تعريف جديد للعدو كما أصبحت تراه القوى المتنفذة في الإقليم، تعريف يوضح أن تصنيف إسرائيل كعدو للأمة العربية يحتاج إلى إعادة نظر، بل واستعداد ذهني لابتكار تصنيف جديد لها باعتبار احتمال تقلدها مهمات الشريك أو الحليف. إن مجرد التفكير في هذا «الواقع الجديد» يعني أنه يتعين صنع بنية فكرية جديدة محل البنية القائمة التي ينطلق منها معظم السلوكات الإقليمية والدولية للدول «العربية» الأعضاء في الجامعة، ولجهاز الأمانة العامة للجامعة.
دعونا نتخيل يوماً تمتنع فيه أجهزة الصياغة في الجامعة العربية عن إدراج عبارة تجرح مشاعر إسرائيل كدولة جارة، وربما تطورت الأمور إلى حد يسمح بعودتها للمشاركة في جانب أو آخر من جوانب الأمن القومي «العربي»، أو أمن النظام الجديد المزمع تشكيله. أعرف بالتأكيد أن اللهجة المعادية لإسرائيل في معظم أجهزة الإعلام العربي تطورت بالفعل إلى لهجة مخاصمة، وهي الآن لهجة مهادنة، ربما في انتظار لهجة الصداقة ثم التحالف. مثل هذه التطورات، الحادثة فعلاً أو المتوقع حدوثها، تعرض على العقول المنشغلة بمستقبل جامعة الدول العربية وشكل النظام الإقليمي، الإجابة عن سؤال هوية النظام الاقليمي ومدى انطباق هوية المنظمة الإقليمية وسلوكيات أعضائها مع هوية النظام، ثم الإجابة عن سؤال: أي عقيدة للنظام؟
نعرف أن عقيدة النظام الإقليمي العربي فرضَها الرأي العام العربي رغم خلو الميثاق من أي إشارة إليها. هذه العقيدة يجري الآن بكل العنف الممكن محوها في العقل العربي. ولا شك في أن استمرار الأسباب التي أضعفت هذه العقيدة، ومنها الحروب الأهلية وحروب بعضهم ضد «أمم» وطوائف وعقائد ومذاهب في الإقليم، وتجميد العمل الديموقراطي أو تحريمه وتقييد الحريات واستخدام إرهاب الدولة لوأد فكرة المواطنة ومطاردة المواطنين، لشهور أو سنوات قادمة، سيساعد كثيراً في الجهود المبذولة لتفكيك عقيدة النظام الإقليمي والتمهيد لإقامة منظمة إقليمية جديدة خالية من ثوابت هذه العقيدة.
المهمة ثقيلة. أقصد المهمة التي ستتولى مسؤوليتها القوى «العربية» التي تتقدم لتحمل أعباء قيادة «أشلاء» نظام إقليمي يبدو هالكاً ووضع قواعد ومبادئ وعقيدة نظام إقليمي جديد. أتصور أن تكون مهمة الحكام المعاصرين أثقل من مهمة الآباء الذين أسَّسوا النظام الإقليمي الراهن وشيَّدوا له جامعتهم «العربية». وقتها واجهتهم مثلاً المشكلة التي نشأت حول عضوية لبنان والتزامه قرارات النظام وتوجهاته، فابتكروا صيغة وضع بروتوكول خاص بلبنان يراعي خصوصيات قطاع من الشعب كان يحتل مكانة الغالبية ومكانها. تعالوا نقارن مشكلة لبنان في الأربعينات بالمشكلة التي يمكن أن تنشأ الآن أو في المستقبل عند صياغة وضع لبنان في نظام إقليمي جديد والتزامه قرارات هذا النظام وتوجهاته.
من المنطقي أيضاً ألا يكون لبنان المشكلة الوحيدة من هذا النوع عند مناقشة تنظيم إقليمي جديد. ففي المنطقة دول عدة، أعضاء في الجامعة العربية، صارت تحمل بعض سمات لبنان، ودول أخرى تعوّدت هي نفسها، أو فصائل فيها، على استخدام العنف ضد أي تدخل خارجي يحاول إعادة تعريف هوياتها، ودول ستحاول بكل جهد ممكن ومال متاح إضفاء هوية دينية على الإقليم. هنا يختلف الوضع عن ظروف تأسَّس فيها النظام الإقليمي العربي ومؤسساته، وقت كان الحرص شديداً لإبقاء الدين بعيداً من السياسة وفسادها وتقلباتها. لقد نجح السياسيون العرب في مرحلة الفوضى العقائدية والسياسية في تسييس الدين وتوظيفه لحساب أهوائهم ومصالحهم، بل وصلت الفوضى وسوء الإدارة وشهوات حكم مستبد ببعضهم إلى حد «عسكرة» الدين وتشكيل فصائل وميليشيات دينية مسلحة، تجاسرت فاستقلت عن صانعيها شاهرةً سيوفها وأعلامها السوداء. هذه أيضاً ستفرض وجودها ونفوذها على كل من يحاول صياغة ميثاق «نظام إقليمي جديد»، وعلى كل من سيتولى قيادة العمل الإقليمي المشترك. لا أتشفى، بل أشفق على كل من يسعى إلى تحقيق حلمين في آن واحد، هدم نظام إقليمي «عربي» آيل للسقوط وإقامة نظام إقليمي جديد محله، هدفه التكامل بين كيانات غير جاهزة أو حتى قابلة للتعايش.
عن الحياة اللندنية