لاقت مسرحية "عزيمتنا" التي عُرِضت على مسرح الجميزة الذي يحتضنُ الأعمال التي تُحاكي الفكر والعقل إعجاب واستحسان الجمهور الّذي كان موجودًا, ومن أجواء سهرة الأمثال لجورج شحادة وسحر الوجود في ذلك المكان إلى المسرح العابث مع الموت مستعيناً بكراسي الستة والّتي تعود بنا إلى عالم ‘أوغين إيونيسكو‘ ومسرحية ‘Les Chaises‘ والّتي حرّكتها احداث مسرحية ‘عزيمتنا‘ لتعكسَ الدوّار الّذي يُصيبنا به العالمُ المتأرجحُ بين أن نكون راسخينَ في الواقع أو عابرين في الوهم وصولاً إلى روائع أغاثا كريستي وتسلسل الألغاز وإخفاء الهويّات حتّى النهاية وذلك لتحضير التحوّل الفجائي Reversal-
ونقلت مسرحية "عزيمتنا" إلى مسرحية: ‘ستّة شخصيّات باحثة عن مؤلّف‘ بسلاسة فنيّة جميلة تحاكي ذكاء ‘لويغي بيرانديللو‘ الّذي يسعى إلى إكمال روايته الّتي تتخبّط في أحداثها شخصيّاتٍ تائهة تلهثٌ وراء مصيرها المجهول, وبدأت بشيء من الباروديا من خارج الحبكة وهذه التقنية شائعة في الجامعة اللبنانية منذ الراحل العظيم ‘ريمون جبارة‘ فقد ارتاح المشاهد وتعرّف إلى شخصيات العمل وخلق معها ما يشبه الحلف المبطّن لتعود وتحملنا هذه الأخيرة إلى أحداثٍ أقرب إلى الواقعية والغموض من خلال وجودها في غرفة يسهلٌ علينا أن ندخلها ولكن الأصعب أن نخرج منها كما الحياة وذلك للبحث عن السرّ الحقيقيّ لهذه الدعوة وعلاقة كلّ من الضيوف بهذا التجمّع الغريب.
وتنساب الأحداث وتتأزّم ويزداد الحلف ارتباطاً بين المشاهد والممثّل ليتعرّف إلى سّره والخطأ الّذي قام به في حياته لنكتشف الحقيقة في إطار مونولوج خاصّ به الّذي يمرّ ما بين الضوء والظلمة . بين وجع الذكريات والإشتياق إلى الأهل, الأولاد والأحبّة يعيش المشاهد قلق وألم كل هذه الشخصيات دون أن ينزلق إلى حدود النزف من الجرح لتبقى أحداث المسرحية سلسة وساحرة.
وكان لافتاً استعمال المسرح في كل زواياه حتّى من جهة الجمهور والّتي أضافت إلى مكوّنات اللعبة عصباً جديداً من خلال الشخصية الّتي دخلت من خارج المسرح. عملٌ جماعي، الغلبة فيه للقضية الإنسانية بعمقها، لا بتشوّهات الإدعاءات والغوص بإدانة أطراف النار.
وتترك أحداث المسرحية المحبكة بذكاءٍ يُشهد لهُ للوجع أن يكون البطل. الشخوص على المسرح يختزلون قصصاً مخيفة وحقيقيّة, وساهمت المسرحية الجديدة من حيث النوع والمعالجة بخلط الحضور بالغياب, وبينت الملامح المكثّفة بالوجه الخالي من الهيئة, وشعر الكلّ الحاضر دفعة واحدة، بالكون وهو يظهر خاوياً متردداً منكمشاً, ويعكس مسرحٌ يمتلئ بالأحاسيس ويجعلنا في قبضته, ويدا الأم الّتي تضع الرداء الأبيض كأنهما الوقت ببطئه وقلقه وموته, والخطوة التوّاقة إلى مساحة أكبر, والنظرة المضطربة والقلق, وبدا الوجود والحضور الإنسانيّ الانتظار والنضال والاستمرار اختزالاً لعظمة الإرادة. يطرح الإنسان ألف سؤال حول رسائله، مناجاته، شوقه، ووجوده, والأحلام مُتعِبة، كحلم الممثلة لدفء الضوء والحالمة التوّاقة إلى حبيبها والأب الغائب عن ابنته.
وتنساب المشاهد والأحداث لتكشف سرّ هذه العزيمة بمفاجأت متتالية يظنّ المشاهد أنها النهاية لتعود وتصدمه الحبكة المبطّنة لشخصية وجوديّة أرادت أن تحقّق قصّة حقيقية ضمن الحياة المفترضة مستعينة بالتمثيل فقط لإرضاء الذات والأنا المريضة, و تمرّ في المسرحية لحظاتٌ يتحوّل كلّ شيء معها كمشة عدم, ولحظاتٌ لا يتقنها سوى صنّاع مسرح.
وتكشف المسرحية قصّة متجذّرة من أجواء المسرح العالمي ولكنها جديدة بأفكارها وبقيمتها المضافة إلى المسرح والفنّ. وتظهر الحبكة مبطّنة ومتقنة تشكّل توأماً أكثر من رائعٍ مع الإخراج الذكيّ والّذي يدخلُ إلى أعمق التفاصيل والمشهدية الرائعة ليخلق إبداعاً غير مسبوق.
ونجح الجميع في خلق عملٍ جماعيّ موفّق وجديد من حيث الشكل والمضمون وقد أتت ردود الفعل إيجابيّة جدّاً وتمنّى الحضور أن تمدّد أيام العروض كي يتسنّى للجميع مشاهدة هذه اللوحات الفنية والمسرحية.
يُذكر أنَّ مسرحية عزيمتنا من تمثيل, باسكار شقير وحسن مشيك وجويل حجّار وبيرلا حنيني ونغم شقير ويحيى التنّير وغابي نازي و العمل من إخراج إيلي حكيّم وجويل حجّار.