عن تاريخنا «المؤدب»

فهرس
حجم الخط
كلٌ منا يعتقد أنه يعرف تاريخ العرب والمسلمين جيداً؛ فقد تعلمناه في المدارس، وفي الدروس الدينية لمن واظب على المساجد، وفي الجامعات لمن تخصص فيه، وفي عشرات الكتب لمن استهواه الموضوع.. والأغلبية الساحقة تعتقد جازمة بأنه تاريخ نظيف، لا تشوبه شائبة، وأن كل من نبشه، أو شكّك فيه إما مستشرق حاقد، أو متثاقف مدّع.
من يكتب التاريخ عادة هم المنتصرون، يكتبه لهم جوقة من المؤرخين الانتقائيين، يحررونه بالطريقة التي لا تغضِب السلطان، ولا تسيء لسمعة الأمة، ورموزها الأبطال.. أما تاريخنا بالتحديد، فإضافة لذلك، فقد كُتب على طريقة "الأفلام العائلية"؛ حيث يقص الرقيب كل المشاهد التي تخدش الحياء العام، فيلتقي العاشقان في الفيلم دون قبلات، ولا مشاهد ساخنة، ويحاول المترجم تخفيف حدة بعض العبارات الفاقعة، فتصبح البيرة "مشروب الشعير"، والشتائم بأنواعها تصبح "تباً"، وقد يحذف المشهد بأكمله، إذا عجز عن ستر فخذي البطلة، أو ضبط تفوهات البطل، وأحيانا يتم اغتصاب الضحية بكل أدب...
على هذه الطريقة درسنا تاريخنا، لذلك لا نعرف الكثير مثلا عن حصار عثمان، والفتنة الكبرى، ومعركة الجمل، وصِفين، والنهروان، والخوارج، وموقعة الحرة، وكربلاء، وإعدامات الحجاج، وثورة الزنج، والقرامطة، ومذابح السفاح، وحروب الأمين والمأمون.. وما كُتب عن تلك الأحداث صيغ بطريقة غامضة، على غرار: قَتل معاويةٌ رضي الله عنه مالكَ بن الأشتر رضي الله عنه!! أو أمر خليفة المسلمين يزيد رضي الله عنه بقصف الكعبة الشريفة، لقتل عبد الله بن الزبير رضي الله عنه!!
هذا ليس تأريخاً؛ إنما تلقين مؤدلج، حذفٌ لكل المشاهد التي تفسد جمال الصورة، وتشذيب ما تعذَّر حذفه، وتأويل كل حدثٍ على المسطرة الأيديولوجية، أي تنقية التاريخ، وتقديمه بأبهى صورة بتقنية "الفوتوشوب التاريخي".. وهذا فضلا على كونه تزويراً للتاريخ، هو تناقض مع منطق وقوانين التطور التاريخي السيسيولوجي للمجتمعات العربية، ونزع صفة التاريخانية عنها، وتحويل التراث إلى قصة دينية، ونفي صفة الطبيعة البشرية لشخصياته الحقيقية، وتحويلهم إلى أيقونات وملائكة ورموز لا يجوز المساس بهم.. بمعنى آخر، تقديم رواية تاريخية غير حقيقية، أو مجتزأة..
وفي حقيقة الأمر لم يكن تاريخنا صفحة بيضاء ناصعة، ولم تكن مجتمعات السابقين هي المدينة الفاضلة؛ بل هو تاريخ مزدحم بالأحداث والوقائع، خيرها وشرها، مثل أي تاريخ لأي أمة أخرى.. تاريخ تظهر فيه النزعات المادية بكل جلاء عند كل منعطف صغُر أم كبُر.. وتتجلى في شخوصه السمات الإنسانية بكل تعقيداتها وصراعاتها، وتطغى على مجتمعاته كل التناقضات الاجتماعية والطبقية.. وهذا أمر طبيعي، أما غير الطبيعي فهو تلك الرواية المثالية التي تجعل من التاريخ قطعة جميلة معلقة في الفضاء، يمكن إسقاطها للأرض وقت ما نشاء، وأنموذجاً حاضراً يمكن استدعاؤه في كل وقت، بل يجب استحضاره باعتباره النموذج الأوحد الذي يصلح لكل زمان ومكان..
وغير الطبيعي تجاهل الأحداث الكبرى التي ما زالت نتائجها حاضرة للآن، وإسقاط كل "الشوائب" التاريخية على نقطة واحدة غامضة؛ أي نسْب كل الفتن والدسائس والصراعات إلى شخص واحد، هو "عبد الله بن سبأ".. ثم إسقاط كل التهم عليه.. وحتى تبدو الرواية منطقية لا بد أن يكون "ابن سبأ" يهودياً، وذا نسب مجهول، حاقداً على الإسلام، مدعوماً من قوى خارجية، تمكّن بمكره ودهائه من اختراق المسلمين، ثم شقَّ صفوفهم، وحرضهم على بعضهم، وأوقد نيران الفتنة الكبرى، ثم اختفى فجأة!! ومثل هذا التأويل السطحي يقدم إجابات مثالية على كل الأسئلة المحيرة، ويحافظ على نقاء الصورة؛ فأي ظاهرة سلبية سيكون سببها "ابن سبأ"!! هذا الشبح التاريخي الذي لم نعرف من أين أتى، وكيف تمكن من تقليب أحداث التاريخ بمفرده! ولماذا كانت كلمته مسموعة ومطاعة!!
وسيظهر "ابن سبأ" مرة ثانية في العراق، وهذه المرة سيكون نتاج تحالف مريب بين الفُرس واليهود، وبالطبع لنفس الهدف، تدمير الإسلام.. وبنفس الآلية، اختراق المجتمع الإسلامي، ثم شقه وبث الفتن فيه، والغريب أن الناس (البريئين الطيبين) في كل مرة تستجيب له منقادة، وهو مختفٍ في مكان ما يدير مؤامراته الكبرى!!!
تاريخنا يا سادة يا كرام، فيه الكثير من المآثر والمنجزات، وفيه الكثير من المظالم والمؤامرات.. حتى نهاية العصر العباسي الأول، كانت الحقبة في مجملها حقبة استبداد وتسلط، تحولت فيها الخلافة الى مُلك عضوض يتوارثه الأبناء عن آبائهم.. إلا أنها ورغم كل ذلك كانت العصر الذهبي في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية؛ ازدهرت فيها الفنون والعلوم والآداب، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا ترزح تحت وطأة الفقر والأمية والجهل. وهذا هو الوجه الآخر للحقيقة.
المشكلة في الانتقائية والغائية في كتابة وقراءة التاريخ؛ فمثلا نفتخر بتلك الحقبة الذهبية للحضارة الإسلامية (800-1100م)، وننسى أنه في تلك الفترة انتشرت المذاهب الفلسفية، وبرز عدد من العلماء الماديين، الذين كانوا يجاهرون بآرائهم التي لو قالها أحد اليوم لحورب واتُهم بالردة والزندقة، وكان التسامح الديني هو السائد، ويسمح بكل أنواع الجدل.
ونتناسى أن التحول الدرامي في منحنى صعود الحضارة وهبوطها بدأ بتوجيه ضربة قاصمة للفلاسفة والمعتزلة، أي عندما ساد التدين المتشدد، وهيمن الفقه المتزمت، الذي لا مكان فيه للتسامح، لتدخل بعدها الأمة مرحلة التفكك والدويلات والصراع على السلطة، وفساد مؤسسات الحكم، وتعطيل الاجتهاد، وإلغاء دور العقل والمنطق، حتى وصلت مرحلة الانحطاط، وأصبحت مطمعاً وفريسة سهلة للمغول والفرنجة.
بالطبع، تاريخنا لم يكن على تلك الدرجة من السواد والحلكة، كما أنه لم يكن زمناً مشمشياً، وبعض شخصياته التاريخية التي ملأت الدنيا بالانتصارات والإنجازات، كانت أيضا تغرق في اللهو والملذات والمعاصي، والشعوب التي أضناها الظلم واستعبدها الحكام، كانت أيضاً تفجر الثورات وتجترح المعجزات.
غالباً ما يكون للحقيقة وجهان، المهم أن نفهم تاريخنا بموضوعية، دون تزمت ولا تقديس، فلو اعترفنا بأخطائنا التاريخية القاتلة، وتعلمنا منها؛ ربما لكان وضعنا الآن أحسن.