من المقولات الشائعة، أنّ قيام الثورة البلشفية الشيوعية في روسيا القيصرية العام 1917، كان على الرغم من أنّ تلك البلاد ليست صناعية، بما يسمح بتجسيد نظريات كارل ماركس عن حتمية قيام الثورة في المجتمع الصناعي. وبالتالي، قام قائد الثورة، فلاديمير إليتش لينين، بقلب النظرية؛ فبدلا من أن يؤدي الاقتصاد للسياسة (أن تحدث الثورة لأسباب اقتصادية)، حدث انقلاب حيث يقود الحزب السياسة والاقتصاد. لكن بحسب دراسة لأستاذ التاريخ والعلاقات الدولية في جامعة برينستون الأميركية، ستيفين كوتكين، نشرت مؤخراً في مجلة "فورين أفيرز"، فإنّ روسيا حينها كانت رابع أو خامس قوة صناعية، وأكبر منتج زراعي، في أوروبا.
من مفارقات العلاقة بين العسكري والاقتصادي، ما حدث في السنوات التي سبقت سقوط الاتحاد السوفييتي العام 1991؛ عندما قامت الولايات المتحدة الأميركية، بقيادة رونالد ريغان، بجرّ السوفييت إلى سباق تسلح ضخم، لم يكن هدفه مراكمة السلاح والتفوق فيه، بقدر ما كان يهدف إلى جعل الاقتصاد الروسي يعاني بسبب ما سينفق على التسلح. وهذا ما حصل فعلاً. وكان ريغان مواظباً في المناسبات العامة على إطلاق النكات بشأن طبيعة الحياة اليومية في روسيا، من مثل نكتته الشهيرة، التي تقول إنّ شخصاً ذهب ليشتري سيارة في الاتحاد السوفييتي، بعد أعوام من تجميع ثمنها، ولكن النظام هناك أن تسجل اسمك في الدور، فقال له الموظف، أن يأتي في يوم محدد بعد عشرة أعوام. فسأل المشتري: هل آتي صباحاً أم مساءً؟ فاستغرب الموظف؛ وهل تهم الساعة بعد عشر أعوام انتظار؟ فأجابه: لأنّ السبّاك سيأتي صباحاً يومها. وذلك في إشارة لبطء كل شيء.
عودة لدراسة كوتكين، فرغم أنّ روسيا كانت في الأرقام الكلية متقدمة قبيل الثورة البلشفية، إلا أن أرقامها التفصيلية كانت متواضعة. فمثلا، كان معدل دخل الفرد 20 % من مستواه في بريطانيا، و40 % من ألمانيا. ومعدل الأعمار 30 عاماً مقارنة بـ 52 في بريطانيا، و51 في اليابان، و49 في ألمانيا، وأقل من الثلث من الروس كانوا متعلمين.
بحسب دراسة كوتكين أيضاً، تراجع الدخل القومي الروسي من تريليوني دولار العام 2013 إلى 1.2 تريليون دولار الآن، في مؤشر على هشاشة الاقتصاد الريعي الذي يعتمد على عائدات البترول، ما جعل الاقتصاد الروسي لا يزيد على
1.5 % من الاقتصاد العالمي. والواقع أنه لو ذهبنا لأرقام المنظمات الدولية، سنجد أن روسيا تتراجع من المرتة 10 إلى المرتبة 13 (بحسب أرقام 2013-2015)، وبحسب كوكتين إلى المرتبة 15 الآن.
يذكر كوتكين أنّ 15 % من سكان روسيا مسلمون. وإذا أخذنا بالاعتبار تورط روسيا، مع التكفيريين، في سورية، فإنّه يمكن توقع أنّ هذا الدور يشكل أيضاً خطراً روسيّاً داخليّاً.
بعيداً عن الباحثين الأميركيين من أمثال كوتكين، يقول غليب بافولفسكي، رئيس معهد روسيا، في موسكو -والذي كان بين العامين 1996 و2011، مستشاراً للرئاسة الروسية، عمل مع كل من بوريس يلتسن وفلاديمير بوتين وديمتري مديفيديف- كاتباً في "فورين أفيرز" ذاتها: "في الأعوام السالفة القليلة، وصل البلد (روسيا) درجة من الشلل أوصلتها لحافة الهاوية، وهددت وجودها نفسه". وقال إنّ المغامرات العسكرية، وأخطاء عملية صناعة القرار، والخداع السياسي (في الداخل والخارج)، هزّت الاقتصاد الروسي وسببت حالة عزلة دولية.
هذا الواقع الروسي، أمر لا يحتاج للكثير من الدراسات لتبينه. ودروس الماضي والحاضر، في روسيا ومن روسيا هي التي تحتاج لمواجهتها من دون إنكار.
إنّ المغامرات العسكرية في الخارج تقوم لأسباب قومية، وأسباب تتعلق بحسابات سياسية شخصية للقادة، ومن دون مقومات اقتصادية كافية لدعمها. هذا حدث مع مغامرات فلاديمير بوتين في القرم وسورية. وهذا يوضح ربما سياسة النفس الطويل التي تنتهجها إدارة باراك أوباما مع روسيا بوتين، بانتظار سقوطه، كما حدث في الثمانينيات.
يراهن البعض أن بوتين يعيد السيرة السوفيتية. وهذا صحيح، ولكن ليس بمعنى العودة كقوة عظمى، بل بتكرار الأخطاء عينها، وأهمها إهمال الإنسان والاقتصاد والديمقراطية.
يوماً بعد يوم يتضح أنّ لا دولة قوية في عصرنا قبل أن تبني إنسانها.
عن الغد الاردنية