فيما يحيك الرئيس الأميركي الرابع والأربعون، باراك حسين أوباما، تركته التاريخية على إيقاع المصالحة مع الأعداء احتفاءً بإخراج أميركا من الحروب تلبية لمشاعر الرأي العام، تتزايد النقمة الشعبية الأميركية على السياسات الحكومية وحال النفوذ السياسي في هيجان عاطفي، وتتضاعف نزعة الانتقام والنقمة والفوقية والعنصرية في الساحة الأميركية. الرئيس الخامس والأربعون، امرأةً كانت أم رجلاً، لن يرث الولايات المتحدة التي يظن باراك أوباما أنه نسجها في عهده بخيوط التهادنية وليس بالعدوانية. إنه سيرث أميركا المنقسمة على خياراتها، المحتجّة على أحوالها، الخائفة من خيالها، المنسحبة من ممارسة العظمة في الموقع الفريد في عهد القطب الواحد بعد انتهاء حكم القطبين نتيجة انهيار الاتحاد السوفياتي. الرئيس الأميركي الآتي، إن كان هيلاري كلينتون الديموقراطية، أو دونالد ترامب الجمهوري رغم أنف الجمهوريين، أو «شخصية جمهورية مميزة» تأتي كمفاجأة قاضية على دونالد ترامب، لن يكون رئيساً تهادنياً شيمته الإرضاء. سيكون، على الأرجح، رئيس المواجهة وإثبات العزم وإعادة الاعتبار إلى الولايات المتحدة القوية والحازمة بلا خوف أو تردد. لعل الولايات المتحدة كانت في حاجة إلى السنوات الثماني التهادنية التي مثّلت حقبة باراك أوباما وأبعدت أميركا عن حروب الآخرين أحياناً على حساب تآكل مبادئ وقيم طالما افتخرت بها الولايات المتحدة – فهكذا اختارت الأكثرية الأميركية وهكذا لبّى أوباما مطالبها. أما اليوم، فإن الشعبوية السياسية غاضبة وحاقدة. جزء منها يشبه دونالد ترامب الذي يرتدي الغضب والحقد والعنصرية ثوباً سياسياً فصّله على نسق المزاج الأميركي كما قرأه. جزء آخر من القاعدة الشعبية الداعمة دونالد ترامب يدعمه لأنه يمثّل طموحاته ويعد بإحيائها وهي: الرأسمالية الأصلية. الرأسمالية التي تعطي المواطن الفرص وليس تلك التي أصبحت ملكاً للشركات الضخمة. أما الناخب الديموقراطي فإنه بشبابه أتى بثورة مهمة اسمها الاستعداد للاشتراكية في الولايات المتحدة. ثورة ناقصة، بالتأكيد، لأن أميركا الغاضبة من استغلال حكومتها وشركاتها للرأسمالية ليست جاهزة لاستبدال هويتها بالاشتراكية، ولو كانت دواء كل علّة. لذلك، لن يصل برني ساندرز إلى منصب الرئاسة، ولا حتى إلى منصب نائب الرئيس. فأميركا ليست جاهزة برغم احتجاجها القاطع على رجال السياسة والمال ونسائهما كما تبيّن الاستطلاعات حيث تعاني هيلاري كلينتون من اللاشعبية وفقدان الثقة الشعبية، شأنها شأن ترامب في هذه الانتخابات الرئاسية المثيرة.
الأميركيون من الحزب الجمهوري أسقطوا آل بوش من الحكم ليس فقط بسبب لا شعبية جورج دبليو بوش والغضب منه بسبب سياساته العدائية ودخوله الحروب وعقيدته الاستباقية، ولا فقط لأن شخصية جيب بوش التلفزيونية كانت ثقيلة الظل عندما خاض المعركة الانتخابية. أسقطوا آل بوش لأن هناك حساسية لدى الأميركيين من افتراض أية عائلة أن لها حق امتلاك الرئاسة الأميركية.
الأميركيون من الحزب الديموقراطي ليسوا مرتاحين إلى آل كلينتون، لا سيما بعدما بدأ الزوجان في تهيئة الابنة الوحيدة تشيلسي لمناصب سياسية مهمة. بيل كلينتون أصبح رئيساً بسبب كفاءته وشخصيته وجاذبيته، لكنه لم يكن ليصبح رئيساً من دون شريكته السياسية الطموح، زوجته هيلاري. ثم وقف بيل وراء هيل – كما يشار إليهما – يوم خاضت المعركة الانتخابية لمقعد ولاية نيويورك في مجلس الشيوخ ثم المعركة الانتخابية الرئاسية التي خسرتها أمام باراك أوباما. اليوم، تسعى هيلاري كلينتون للحصول على الترشيح الديموقراطي للرئاسة يواجهها رجل مسنّ واشتراكي جعلها تلهث لتبقى عائمة بعدما كانت استرخت اعتقاداً منها أن الترشيح الديموقراطي لها في الجيب. تلهث بسبب ثقل حمل اتهامها وزوجها بالاستفادة مادياً عبر صفقات مع البنوك الكبرى أو عبر مؤسسة كلينتون (وهما ينفيان التهم). تلهث لأنها غير محبوبة. فهيلاري تفتقد الجاذبية التي رحمت بيل وهي لا تملك حسن التواصل مع الناس أو عبر التلفزة.
لكنها ستصل إلى المؤتمر الديموقراطي الشهر المقبل بالأرقام التي يتطلبها الترشيح الرسمي لها. حتى الآن، يبدو أن هيلاري كلينتون هي التي ستواجه المرشح الجمهوري. البعض لا يصدّق ذلك ويعتقد أن لا مجال لإسقاط أميركا لآل بوش والإبقاء على آل كلينتون. البعض يشير إلى التحقيقات في استخدام هيلاري كلينتون الرسائل الإلكترونية أثناء خدمتها كوزيرة للخارجية ويعتقد أن النتيجة ستؤذيها. وهناك مَن يتحدث عن صحتها مشيراً إلى إغمائها ووقوعها فجأة قبل سنتين تقريباً، ويخشى أكثر. إنما الأكثرية تعتقد أن هيلاري كلينتون هي المرشحة الديموقراطية للرئاسة وأن معركتها الآتية التي ظنّت أنها سهلة ستكون صعبة جداً أمام المرشح المفترض حتى الآن، الذي حصل على الأرقام الضرورية هذا الأسبوع لكنه يبقى مهدَّداً إلى حين عقد المؤتمر الجمهوري في منتصف تموز (يوليو) قبيل المؤتمر الديموقراطي بأيام.
دونالد ترامب كان يتمتع بتسميته «ذا دونالد» لكنه اليوم يستسيغ مخاطبته بـ «مستر ترامب». إنه ظاهرة استخف بها معظم الأميركيين والأكثرية العالمية. ظاهرة ظُنَّ أنها عابرة، لكنها استمرت ونمت وتحوّلت إلى واقع في وجه كل الصعوبات والعراقيل والاستخفاف.
«ذا دونالد» كان شخصية معروفة بحذاقتها وقدرتها على التفاوض وعلى صنع الصفقة. شخصية النجاح في عالم «البزنس» وعالم المال. فالأميركي العادي معجب بـ «ذا دونالد» لأنه ناجح وغني ويتزوج عارضات أزياء ويحسن إبرام الصفقات بحذاقة. الأميركي العادي تمنى لو أنه «ذا دونالد» الذي كان دائماً مبتسماً ومتباهياً وفرحاً بنجاحاته.
دخل دونالد ترامب حلبة الانتخابات وسط دهشة البعض واستهتار البعض الآخر. أعلن أنه سيسدد نفقات حملته من أمواله الخاصة، فازداد الانبهار به من جانب أولئك الذين أعجبوا به أساساً. خلع الابتسامة والضحكة عن وجهه وارتدى الغضب والتعالي – إما كقناع موقّت للمرحلة الانتخابية أو كبديل سيلازمه كـ «مستر ترامب» أو كـ «الرئيس دونالد ترامب».
التكتيك الذي اختاره هو التحدي والتصدّي لأي كان أينما كان. جعل من غروره سلعة تسويقية لمصلحته. صنع من مواقفه المذهلة ضد المسلمين والمكسيكيين والنساء والسود أداة للصدمة أتت بتغطية إعلامية ضخمة لمصلحته. ضخ الأمل في المُحبَطين كحقنة منشّطة فلم يعد للمنطق مكان ولم يتساءل أتباعه عن الفارق بين وعود الأمل وبين الكلام المعسول – فكلاهما فارغ. المهم هو الشعور بالتنشيط والنشاط.
أحد المتحمسين لدونالد ترامب عرض مجموعة من الفناجين والقمصان وما إلى ذلك كلها مطبوعة بـ «ترامب» وقال أنه دعم ترامب بشراء هذه الأشياء غالياً. ذلك أن ترامب لم يكن قادراً على تلقي التبرعات دعماً لحملته لأنه هو الذي موّلها، فوجد الوسيلة التي يعرفها لجمع الأموال: البيع والشراء. هكذا حصل على داعمين لحملته. فهؤلاء مقتنعون بأن الرئيس دونالد ترامب سيكون رئيساً لمصلحة الرأسماليين الصغار وسيساعد الشركات على النمو، ولن يكون رجل الـ «استابلشمانت»، (Establishment) لأنه تحدّاها طوال مسيرته إلى البيت الأبيض.
واقع الأمر أن دونالد ترامب بدأ التواصل مع أقطاب المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة المكوّنة من كبار الشركات، وكبار العقول، وكبار أصحاب الأموال، وكبار الصناعات العسكرية، والبنوك، والصناعات النفطية، والتكنولوجيا، وهي ما يسمى «استابلشمانت» اليوم. إن تكتيك ترامب هو تحدي «المؤسسة» بما يجعلها أقرب إلى الرجل العادي الغاضب من أوضاعه الاقتصادية المزرية في بلد الأغنياء. ولكن، واستعداداً للغد، بدأ دونالد ترامب الإعداد لمصالحة وشراكة عميقة مع الـ «استابلشمانت» في استراتيجية تتعدى الخطوات التكتيكية. فهو، شأنه شأن كلينتون، يفهم تركيبة الحكم الأميركية.
برني ساندرز هو الذي أحدث تغييراً مهماً في المشهد الأميركي بخوضه الانتخابات معلناً بثقة وبلا مواربة أنه يتبنى الاشتراكية الأوروبية على نسق الاشتراكية في السويد مثلاً. باراك أوباما مهّد للقبول بفكرة الاشتراكية، لكنه فعل ذلك خلسة وبلا اعتراف بأية نزعة اشتراكية. الشباب الأميركي دعم الاثنين، وهيلاري كلينتون لهثت وراء الاثنين.
ظاهرة ترامب وظاهرة ساندرز تفيدان بأن الأميركي العادي فقد الثقة بواشنطن وأراد أن يبلّغ رسالته بوضوح بأنه ليس راضياً، وأن صوته هو وسيلة التمرد على الوضع الراهن وعلى أداء السياسيين والحكومة في العاصمة الأميركية. الظاهرتان تعنيان أيضاً أن الأميركي العادي طفح كيله من تسلط الشركات الكبرى على الاقتصاد وصنع القرار.
الفارق أن برني ساندرز قد يترك بصماته على الحزب الديموقراطي ويرحل عن المناصب، فيما دونالد ترامب أحدث اهتزازاً جذرياً في صفوف الحزب الجمهوري، ووفق ما يبدو، أنه باقٍ وعازم على خوض الانتخابات الرئاسية مهما كان. فإذا أتى الجمهوريون بخيار آخر، يخشى ترامب أن يكلّفه ذلك غالياً في معركة ثلاثية، إذ إنه يعتقد أنه قادر على خوض المعركة ضد هيلاري كلينتون والفوز بالرئاسة.
ماذا سيحدث في شهر كانون الثاني (يناير) المقبل؟ بكل تأكيد، وعلى رغم كل تلك التغطية الإعلامية العالمية للانتخابات الأميركية، من المبكّر الحسم أو التوقع بنتيجة واضحة لمصلحة كلينتون أو لمصلحة ترامب. فمن الآن حتى الشهر العاشر ستكون فترة المفاجآت، وستزداد الضغوط على المرشحين، وسيُجرى امتحان كل منهما بمختلف الوسائل والأدوات. بل من الآن وحتى الجزء الثاني من شهر تموز (يوليو) من الخطأ استبعاد أي حدث يؤثر في كل من كلينتون وترامب. فكل شيء وارد في الانتخابات الأميركية.
أما في ما يعني السياسات الخارجية لكل من هيلاري كلينتون ودونالد ترامب، فإن المشهد العام لقراءة سياساتهما وتوجهاتهما يفيد بأن صفحة باراك أوباما ستُطوى بكل تهادنيتها ونزعة الإرضاء، وأن أميركا مقبلة على مرحلة يريد شعبها وكذلك «المؤسسة» فيها أن تكون أكثر شراسة لإثبات الوجود وأكثر عدوانية عندما لا يعجبها من يقف قبالتها.
عن الحياة اللندنية