المبادرة الفرنسية: محاولة فتح ثغرة في جدار تفاوضي مغلق!

images
حجم الخط

 

 

 

أثبتت إسرائيل في طريقة تعاملها مع ما سمي بالمبادرة الفرنسية التي تنطلق أول فعالياتها ممثلة بالمؤتمر أو الاجتماع الدولي، اليوم، في العاصمة الفرنسية باريس، بأنها ما زالت قوية سياسياً، وأنه من الصعب جداً على أحد - حتى لو كانت الإرادة الدولية - أن يفرض عليها حلاً سياسياً لا تريده أو لا تقبله. 
وحيث إن حديث المبادرة الفرنسية قد طرح منذ وقت، تم خلاله البحث في تفاصيلها مع الأطراف المعنية، كانت إسرائيل الطرف الوحيد الذي قال: لا للمبادرة، على الرغم من أنها تتحدث عن اجتماع أو حتى مؤتمر دولي، في باريس وليس في نيويورك، أي خارج إطار القرارات الدولية الخاصة بالملف الفلسطيني. 
ولأن فرنسا كانت قد أعلنت المبادرة التي صارت حديث الناس خلال الأشهر الأخيرة، ولأكثر من سبب وهدف، منها كرامة ومكانة فرنسا كدولة عظمى، كذلك بهدف تعزيز مكانة ونفوذ التحالف الإقليمي / الدولي المحارب للإرهاب في المنطقة، وبهدف تثبيت أركان محور الاعتدال العربي كقوة إقليمية تتجاذبها الرياح منذ أكثر من عقد ونصف من السنين، بات هدف إطلاق المفاوضات أو بمعنى أدق، حل الملف الفلسطيني / الإسرائيلي، لتحقيق جملة تلك الأهداف مجتمعة، وليس فقط من أجل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأرض والشعب الفلسطينيين.
قوة إسرائيل السياسية في مواجهة مبادرة أو رؤية حل لاحظت ضرورة التدخل الدولي لحل مشكلة عجز طرفاها طوال أكثر من عشرين عاماً من التفاوض الثنائي عن حلها، وهي تلقي بظلالها على ملفات الشرق الأوسط برمته وتهدد مصالح دول عديدة، وتفاجئ حتى أوروبا بملايين المهاجرين الجدد كل عام، لذا فقد دفع رفض إسرائيل - على الرغم من أن انعقاد المؤتمر لا يتطلب حضور أو مشاركة طرفي النزاع: الفلسطيني والإسرائيلي - إلى "تنازلات" من قبل فرنسا والعرب!
حاولت فرنسا أن تقنع إسرائيل من خلال مطالبة رئيس وزرائها مانويل فالس الدول العربية الاعتراف بإسرائيل، كذلك من خلال حديث العرب عن تعديل في المبادرة العربية، ومن انتقال فوري أو تلقائي للمبادرة الفرنسية من باريس إلى القاهرة، حيث تجري المفاوضات على أساس معدّل للمبادرة العربية المطروحة منذ عام 2002، لكن حتى اللحظة، لم يخرج من تل أبيب ما يشير إلى قبول إسرائيل بما سيخرج عن مؤتمر باريس!
تمارس إسرائيل إذاً سياسة ابتزاز واضحة ليس فقط لحالة الضعف التي تظهر ملامحها على الواقع الفلسطيني، بل ولحالة الضعف والحاجة العربية للتحالف الأمني مع إسرائيل لمواجهة تحديات إيران، التي تناصب دول الخليج العداء، وتركيا التي ما زالت على علاقة متوترة أو غير ودية مع مصر. 
الكل يتقرب من إسرائيل لكسب ودها، بما في ذلك تركيا، وروسيا، حتى إيران وحزب الله لم يعودا يمارسان التحريض ضد الدولة العبرية، لدرجة أن يسكت حسن نصر الله على الموقف الإسرائيلي تجاه اغتيال مسؤوله الأمني، مصطفى بدر الدين، حيث لم يجرؤ على توجيه الاتهام لإسرائيل خشية من أن يبدو مطالباً بالرد، خاصة أنه تقاعس عن الرد على اغتيال سمير القنطار قبل عدة شهور قليلة! 
لذا فإن إسرائيل "تتعزز" وتحاول أن ترفع "السعر" إلى أبعد مدى، ومن يدري، ربما يتحول المؤتمر إلى مناسبة احتفالية للتنديد "بالإرهاب" وإلى أن محاربته تتطلب تحشيد كل القوى المناوئة له، بما في ذلك إسرائيل، فتدخل بذلك على خط كان دائماً محرماً عليها منذ حرب الخليج الأولى، بتكليف دولي ومباركة عربية!
ربما أيضاً يظهر لنا مؤتمر باريس أن الأيام تعود للوراء ربع قرن بالتمام والكمال، حين عقد مؤتمر مدريد على مقربة من باريس، تحت ضغط أميركي، لم تقبل المشاركة فيه إسرائيل إلا بعد أن تم "تضمين" الأعضاء الفلسطينيين للوفد الأردني، أي أن إسرائيل اشترطت أن تفاوض العرب وليس الفلسطينيين، لكن المفارقة الآن هي أن إسرائيل تصر هذه المرة على المفاوضات الثنائية!
حتى هذا المطلب قبلته باريس والقاهرة اللتان أكدتا أن المبادرة الفرنسية / المصرية تهدف إلى دفع الطرفين لإجراء مفاوضات ثنائية، أي أنه ليس هناك من حل مفروض على الطرفين!
حتى لو نجحت الأطراف الدولية والإقليمية الراغبة بحل الملف الفلسطيني / الإسرائيلي للتسهيل على حل ملفات إقليمية أخرى، في إنجاح مؤتمر باريس ومن ثم نقله للقاهرة، فإن الحل الناجم عنه لن يلبي الطموحات الفلسطينية بإقامة الدولة المستقلة على حدود الرابع من حزيران، ولا يلوم الفلسطينيون إلا أنفسهم، بعد أن عدموا كل وسائل الضغط الممكنة على الاحتلال بإطلاق مقاومة شعبية / سلمية كما تريد "فتح"، أو انتفاضة ثالثة عنيفة كما تريد "حماس"، فلا هذه كانت ولا تلك، وأسوأ مظاهر الانقسام كانت في عدم التوصل لبرنامج مقاومة مشترك في الضفة والقدس، وليس بين غزة والضفة!
وما دام الفلسطينيون عاجزين عن التوحد وإدارة شؤونهم بأنفسهم، لدرجة أن تسعى غزة من أجل كسر حصار قائم منذ عشر سنين، إلى الارتماء في حضن تركيا عبر ممر مائي، وما دامت السلطة في الضفة عاجزة عن إجبار إسرائيل على الدخول في مفاوضات جدية، وعن قيادة الكفاح الوطني وإقامة جبهة موحدة في الضفة والقدس، تشمل "حماس" والجهاد وحتى التحرير، فإن ذلك يعني أن بقاء الملف الفلسطيني عالقاً يغري أطرافاً عربية _ فالأقربون أولى بالمعروف وبالتدخل، والعودة لاحتواء الفلسطينيين وفق إعادة وتعديل حدود سايكس / بيكو، وكفى الله المؤمنين شر القتال!

-