مرةً أُخرى دعيت إلى تركيا برعاية من رئيس بلدية اسطنبول الكبرى الدكتور قدير طوباش، إلى جانب الدكتور مصطفى كوكصو كبير مستشاري وكالة دعم وتشجيع الاستثمار التابعة لرئاسة وزراء الجمهورية التركية.
الزيارة تضمنت برنامجاً مزدحماً تنوع بين لقاءات جمعت عدداً كبيراً من الصحافيين برئيس بلدية اسطنبول، فضلاً عن المشاركة في احتفالية جماهيرية بذكرى مرور 563 عاماً على فتح القسطنطينية على يد السلطان محمد الفاتح في عهد الخلافة العثمانية.
الاحتفالية التي أقامتها بلدية اسطنبول في ساحة كبيرة تطل على البوسفور والتي حضرها ما يزيد على المليون تركي، حملت رسائل خارجية وداخلية، لعل من أهمها أن تركيا التي تتعرض لانتقادات خارجية، ماضية في التقدم والتطور وفرض وجودها الإقليمي على الساحة الدولية.
أيضاً تحمل الاحتفالية مضامين تتعلق بالحالة الأمنية المستقرة التي تتمتع بها البلاد، بصرف النظر عن التداول في السلطة واستقالة أحمد داود أوغلو من منصب رئاسة الوزراء وحزب العدالة والتنمية الحاكم، وتعيين بن علي يلدرم خلفاً له.
بعيداً عن الرسائل الخارجية وتركيزاً في الوضع الداخلي التركي، يمكن القول إن الجمهورية التركية استهدفت تحقيق رؤية 2023 القائمة على التطور العلمي والتقني والمضي في دفع عجلة التنمية المستدامة نحو تقليل الاعتماد على الخارج والتركيز على التصدير المتنوع.
إذا أخذنا القطاع السياحي سنلاحظ الفرق بين تركيا 1994 أو تركيا 2002 وتركيا اليوم، حيث تضاعف النشاط السياحي وبلغ عدد السياح خلال العام الماضي حوالي 39 مليون شخص، وتعتبر تركيا الدولة السادسة من حيث الترتيب العالمي في جذب السياح.
خذ مثلاً المتجول في اسطنبول أحد أهم المدن التركية، بل ربما المدينة الأهم من حيث الجذب السياحي والثقافي والتاريخي والاقتصادي، سيجد هذا المتجول خليطاً متنوعاً من الجنسيات، ولم تعد السياحة مقتصرة على الجانب الترفيهي، بل تنوعت لتشمل السياحة العلاجية والاقتصادية والدينية والمؤتمراتية... إلخ.
أما على الجانب الاقتصادي، فلا عجب أن تركيا تشهد تطورات اقتصادية ملموسة، يعزز ذلك عامل الأمن والاستقرار، حيث تستهدف الجمهورية تنويع اقتصادها بهدف تعزيز الاعتماد على السوق المحلي وتقليل الاستيراد.
يعزز ذلك أن تركيا تشهد نمواً مستمراً ومن المتوقع أن يصل معدل النمو للعام الجاري حوالي 5%، وهذه نسبة ليست بسيطة أبداً في ظل التطورات السياسية والاقتصادية الجارية على مستوى العالم، فضلاً عن تباطؤ النمو العالمي.
الدخل القومي في تركيا وصل إلى حوالي 800 مليار دولار، وهذا الرقم كان جد متواضع قبل أكثر من عشر سنوات حيث بلغ 230 مليار دولار تقريباً، الأمر الذي يعني وجود خريطة طريق تستهدف إقواء الاقتصاد التركي ودفعه إلى مصاف الدول المتطورة والمصنعة.
الآن تصنف تركيا في المرتبة رقم 17 في العالم من حيث القوة الاقتصادية، وكانت فيما مضى تستورد ما نسبته 85% من الأسلحة والصناعات العسكرية، لكنها خفضت استيرادها إلى حوالي 45%، مقابل التوجه نحو التصنيع العسكري والتصدير من هذه المعدات إلى أكثر من 150 دولة.
الدكتور مصطفى كوكصو كبير مستشاري وكالة ودعم الاستثمار، أطلعنا على عدد من الأسباب التي تجعل تركيا مناخاً مناسباً للاستثمار، حيث عدد مجموعة من العوامل، من بينها التسهيلات التي تقدمها الجمهورية التركية للمستثمرين الأجانب والعرب، فضلاً عن المناخ السياسي والاقتصادي والأمني المستتب الذي يخدم البيئة الاستثمارية في تركيا.
في العام 2002 كانت تركيا تصدر حوالي 36 مليار دولار، بينما تضاعف هذا الرقم في العام 2015 ووصل إلى 160 مليار دولار، وفي ذات الوقت كانت أنقرة مكبلة بسياسات المؤسسة المالية الدولية، حيث بلغت مديونيتها قبل 12 عاماً حوالي 23.5 مليار دولار، وجرى تسديد المبلغ كاملاً، واليوم يوجد في البنك المركزي التركي 136 مليار دولار احتياطي نقدي، إلى جانب أن صندوق النقد الدولي استدان من تركيا مبلغ 5 مليارات دولار.
بعد تصفير ديونها، أصبحت تركيا من بين 11 دولة في العالم تمكنت من دفع كامل مديونيتها إلى المؤسسة المالية الدولية، وتسعى اليوم إلى ضخ الأموال في استثمارات ومشاريع كبرى، كما هو الحال في مشروع بناء مطار ضخم يعتبر من أكبر المطارات في العالم بمساحة إجمالية تقدر بحوالي 76 مليون متر مربع، على أن يستوعب بين 180 إلى 200 مليون مسافر حول العالم.
خلال زيارة مدينة اسطنبول التي تقف شاهداً ومعلماً بارزاً على تطور الجمهورية التركية، يلاحظ هناك أحد أهم المشروعات الكبرى الذي يتركز في مجال تقليل الازدحام المروري في مدينة يسكنها بين 15 إلى 16 مليون نسمة، أي ما نسبته 18.5% من كامل التعداد السكاني لتركيا.
هذا المشروع متعلق أساساً بتوسيع شبكة الأنفاق والجسور والمواصلات العامة من قطارات وسفن ومركبات نقل، ومرتبط بشكل كبير بالتوسع في النشاط العمراني السياحي وتوزيعه في مناطق متباعدة لإيجاد حالة من التوازن السياحي تستهدف تخفيف الضغط على عصب المعالم السياحية في مدينة اسطنبول والتي تقع في القارة الأوروبية منها.
أكثر ما لفت الانتباه وجود مناطق ترفيهية ومطاعم تابعة لبلدية اسطنبول، فهذه المناطق لم تصلها أيادي الخصخصة التي لا يهمها سوى الربح السريع، وحسناً فعلت البلدية حينما اهتمت بهذه المناطق ورعتها وقدمت الخدمات مقابل مبالغ نقدية متواضعة تستوعبها مختلف شرائح المجتمع، بما فيها الطبقة الفقيرة.
إن ما تحتاجه أي دولة لتوليد تنمية مستدامة وتطور حضاري تستجيب لتطلعات الشعب هو الإرادة، والنموذج التركي في تحسين الحياة المعيشية بتدعيم السياسة والاقتصاد، ينبغي دراسته والاسترشاد بما يمتلكه من عناصر قوة.
النموذج التركي واحد من النماذج التي تطورت وحققت منافع يجني ثمارها الشعب الآن، كما هو حال التجربة الكورية الجنوبية والبرازيلية... إلخ، والأولى لنا أن ننظر في خطاباتنا ونقلل منها، وأن نبدلها عملاً مجزياً يفيد الشعب العربي ويخفف عنه مآسيه الحاضرة والمتنوعة.