قصة المشروع الاستيطاني

ELSAHEFA-55989-2
حجم الخط
يوم الاحد، 5 حزيران، تحل الذكرى الـ 49 لاندلاع حرب "الايام الستة"، والتي تغير في أعقابها وجه اسرائيل. وصدر، هذا الاسبوع، الفيلم الوثائقي "المستوطنون" للمخرج شمعون دوتان. هذا فيلم شديد القوة، هاذٍ، ولكنه باعث على اليأس ايضا. فهو يروي تاريخ المشروع الاستيطاني الاسرائيلي،  الذي سيبلغ قريبا الخمسين من العمر. الفيلم مهم، وبالتأكيد يجدد أو يؤكد للشباب والاقل شبابا ممن ولدوا في واقع الاحتلال في الضفة، بأن الاستيطان هو مشروع تاريخي طويل السنين.
لأبناء جيلي – ممن كانوا فتيانا في حرب "الايام الستة" وبعدها – يعد أمرا ليس بالجديد. بالنسبة لنا، ما حصل في حينه ليس قطعة من التاريخ. فقد كنا شهودا احياء على تشكل الواقع الذي غير اسرائيل ووجه المجتمع، ويواصل تصميم ليس فقط الحاضر بل وايضا المستقبل لنا ولاولادنا.
يروي الفيلم كيف انه فور حرب "الايام الستة" تلقى رئيس الوزراء، ليفي اشكول، طلبا من حنان فورات ابن مستوطنين في "كفار عتصيون" ممن احتل مستوطنتهم في "حرب الاستقلال" الجيش الأردني، السماح له ولرفاقه العودة للاستيطان في المكان. تردد اشكول لزمن ما بل تملص من لقاء فورات، ولكنه في النهاية قال لهم بالايدش "كيندرلعخ" – هكذا على الاقل اقتبس في الفيلم احد رفاق فورات اشكول - وأعطى مباركته، دون قرار حكومي.
كانت هذه الخطوة الاولى في مسيرة الاستيطان في الضفة. بعد بضعة اشهر اتخذت الخطوة الثانية: الحاخام موشيه لفينغر وبعض رفاقه تخفوا كسياح سويسريين واستأجروا غرفا في فندق "بارك" في الخليل، لإقامة ليل الفصح في مدينة الآباء. وبعد انتهاء الاحتفال، رفضوا الخروج وأقاموا البنية الاولى لـ"كريات اربع"، ولاحقا الحاضرة اليهودية في قلب الخليل نفسها. وقد اتيح الامر ايضا بسبب الصراع السياسي الشديد الذي دار في حينه بين وزير العمل، يغئال الون، ووزير الدفاع، موشيه دايان، على قيادة حزب العمل. وكان الون ايد المستوطنين كي يناكف دايان.
ولكن الانعطافة الاهم حصلت بعد حرب "يوم الغفران". حتى ذلك الحين كانت لحكومة اسرائيل سياسة قامت على أساس مشروع الوزير ألون، المسمى على اسمه. وحسب المشروع لم تقم مستوطنات الا في المناطق التي كانت تعتبر ذات قيمة امنية وعسكرية. كان هذا هو الفكر الكلاسيكي للعمل، والذي يقول ان المستوطنات المدنية هي عنصر ومساهمة في الامن الوطني. وهكذا اقيمت في السنوات الست بين الحربين بلدات في غور الاردن، بهدف ان تكون الحدود الشرقية لاسرائيل في كل تسوية سياسية مع الاردن حتى لو انسحب الجيش الاسرائيلي من الضفة.
أيد ألون وحزب العمل اقامة بلدات في "غوش عتصيون"، في القدس وفي الغور ولكنهما عارضا بشدة كل اقتراح لاقامة مستوطنات في ظهر الجبل وفي قلب السكان الفلسطينيين. ولكن صدمة حرب "يوم الغفران" والشرخ العميق في المجتمع وفي السياسة الاسرائيلية في أعقابها أحدثا تغييرا في الموقف من الاستيطان ايضا. فورات، فليكس، بيني كتسوفار وآخرون من خريجي حركة بني عكيفا من الحزب الديني – القومي (المفدال)، وكثير منهم ايضا من خريجي مدرسة "مركاز هراف" في القدس، اقاموا حركة "غوش ايمونيم".
تأسست الحركة بفضل المساهمة السخية من صناع نسيج اسرائيلي يسمى آرنست فادك، واجتمع زعماؤها لعدة جلسات في فيلته في هرتسيليا بيتوح. في العام 1979 كشف النقاب في مقال في مجلة "مونيتين" دور فادك في "غوش ايمونيم" ورسمت صورته. لم يكن فادك متدينا، ولكنه أيد من كل قلبه فكرة "بلاد اسرائيل الكبرى" واقامة مستوطنات في كل مكان في البلاد. وفي مرحلة معينة نقل مصنعه الى الضفة.
مفعمين بحماسة دينية ومسيحانية قرر رجال "غوش ايمونيم" اقامة البلدة الاولى في "السامرة" رغم معارضة الحكومة. وصلوا ست مرات الى محطة القطار القديم (التركي) في سبسطيا، للاعلان عن اقامة بلدة "الون موريه".
في العام 1974 كنت مراسلا شابا في "صوت اسرائيل" وارسلت لتغطية مساعي رجال "غوش ايمونيم" لفرض ارادتهم على الحكومة، التي كانت لا تزال بقيادة المعراخ (العمل ومبام) برئاسة اسحق رابين. كنت شاهدا على مساعيهم المصممة للتمسك بـ"أرض اسرائيل". وكان عدد المشاركين يزداد في كل مرة. ونظم زعماء الحركة عمليات الحجيج الى سبسطيا في اعياد العرش والفصح، كي يجلبوا الى هناك آلاف التلاميذ من معتمري القبعات الدينية المحبوكة.
بدهائهم، استغلوا ايضا الصراعات الشخصية في قيادة حزب العمل. حتى حرب "يوم الغفران" كان الصراع على قيادة الحزب بين ألون ودايان. بعد الحرب انتقل ليصبح بين رابين ووزير الدفاع شمعون بيريس. ايد الاخير المستوطنين كي يضر ويقوض مكانة رئيس الوزراء. وأمر وزارة الدفاع بالمساعدة في اقامة "معسكر عمل" في جبل حتسور في شمال القدس، والذي اصبح فيما بعد مستوطنة "عوفرا"، الاولى التي اقيمت في ظهر الجبل.
زميلي، الصحافي عكيفا الدار، يروي في الفيلم بانه تحدث مع بيريس وسأله اذا ما ندم على مساهمته في مشروع الاستيطان. ويقول الدار ان بيريس اعترف "لو كنت أعرف أي وحش سينشأ لنا لما سمحت بذلك". وعن هذا لا يمكن الا ان نقول ما يقال بالانجليزية "It’s too late, baby" - (فاتتك يا حبيبي).
ست مرات حج رجال "غوش ايمونيم" الى سبسطيا وست مرات أخلاهم الجيش الاسرائيلي. في الحج السابع نجحوا في لي ذراع الحكومة، التي خافت من اخلاء عنيف ومن حرب أهلية. ظاهرا، في المرة ايضا اخلي المستوطنون. ولكن عمليا، بوساطة الشاعر حاييم غورو (الذي يأسف اليوم على دوره في القضية) الذي عمل بتكليف من الوزير اسرائيل غليلي، تحقق حل وسط: اتفق على أن يسكن 30 رجلا لفترة زمنية محدودة من ثلاثة اشهر، في قدوم، معسكر اردني كان يعمل كقاعدة ارشاد للشرطة العسكرية. وفكرة نقل قواعد الجيش الاسرائيلي الى الضفة كانت لقائد دائرة الارشاد اللواء ارئيل شارون. رجال "غوش ايمونيم"، كعادتهم، تذاكوا. ليس 30 رجلا انتقلوا الى قدوم بل 30 عائلة. وهكذا قامت البلدة الاولى وسط "السامرة"، في قلب السكان الفلسطينيين.
أتذكر أني أجريت لقاء في حينه مع وزير الصحة، فيكتور شمتوف، من "مبام"، الوزير الوحيد الذي عارض الحل الوسط. وأعرب في الحديث عن رضاه من القرار وقال: "انتصرنا، الحكومة انتصرت على المستوطنين". كنت في حينه ابن 25 ولا اعرف من أين استمددت الوقاحة كمراسل شاب لاقول: "لا، سيدي الوزير، لم تنتصروا. خسرتم".
آنيّة الـ 30 عائلة في قدوم اصبحت حقيقة دائمة. فبعد بضع سنوات كفت قدوم عن أن تكون معسكرا وتحولت الى مستوطنة "قدوميم"، التي تقع على مسافة نحو 10 كيلومترات غرب نابلس.
انتصرت "غوش ايمونيم" في صراعها ضد حكومة اليسار. وبعد نحو سنتين، في العام 1977، وقع التحول السياسي. بعد 29 سنة من حكم حزب العمل، هزم معسكر اليسار في الانتخابات، واقام زعيم "الليكود" بيغن الحكومة اليمينية الاولى لاسرائيل. بعد زمن قصير من الانتخابات تجول بيغن في الضفة الغربية، يرافقه وزير الزراعة، ارئيل شارون، الذي كان ايضا رئيس اللجنة الوزارية لشؤون الاستيطان. ووعد بيغن بان يقام "الون موريه كثر". وبالفعل هذا ما حل بالضبط.
حسب "المستوطنين" يسكن في الضفة، بما في ذلك في ضواحي القدس اليوم نحو 400 ألف مستوطن. معظمهم، مثلما يعترف باستقامة واحد منهم في الفيلم، جاؤوا ليجسدوا حلمهم البرجوازي – بيت خاص كبير مع حديقة ومشهد يحبس الانفاس. نحو 20 في المئة، نحو 80 الفا، يعتبرون "النواة الصلبة": مستوطنون ايديولوجيون، رجال "غوش ايمونيم" ومؤيدوهم. حسب منظمة "قادة من اجل امن اسرائيل"، فان عدد المستوطنين في الضفة أعلى بكثير ويبلغ نحو 570 الفا.
فيلم دوتان يهز النفس وتقشعر له الابدان، بالذات بسبب التضارب الذي بين المشاهد الرائعة للضفة والاقوال الهادئة للمتحدثين، حتى وان كان بعضها يبدو هاذيا، وبين الواقع المعروف جداً للاحتلال، القمع، الكولونيالية، الاستغلال الاقتصادي والعنصرية. نساء متدينات، من مستوطنة "بات عاين"، التي اخرجت من اوساطها في العقد الاخير بعضا من كبار الارهابيين اليهود، يعترفن بلا خجل امام الكاميرات بانه محظور على العرب، بمن فيهم العرب الاسرائيليون، الدخول الى المكان.
يروي الفيلم باختصار ايضا نشوء التنظيم الارهابي السري للمستوطنين وأعمال القتل التي قام بها الافراد. كان التنظيم السري اليهودي في الثمانينيات، والذي نشأ من قلب "غوش ايمونيم"، واغتال رؤساء البلديات، خطط لتفجير باص اطفال وتفجير المساجد في الحرم. كان في العام 1994 د. باروخ غولدشتاين الذي قتل في الحرم الابراهيمي 29 مصليا مسلما. في جنازته شارك يغئال عمير، قاتل رابين؛ وفي السنوات الاخيرة يعمل تنظيم سري لفتيان التلال او "جماعة التمرد"، برئاسة مائير أتينغر، حفيد مائير كهانا. الفيلسوف والبروفيسور في الفكر الاسرائيلي، موشيه هلبرتال، يقول عنهم في الفيلم انهم "يحسدون الفلسطينيين ويريدون أن يكونوا شهداء".
ينتهي الفيلم بصور جسم غير واضح، يلبس وينزع حدود اسرائيل، كما تغيرت في 3.600 سنة من تاريخها. هذه محاولة من المخرج للتلميح بان كل شيء لا يزال مفتوحا وممكنا. "بالتأكيد يمكن لكل شيء ان يتغير في المستقبل"، يقول دوتان في حوار مع الجمهور بعد بث الفيلم وروى بان مستوطنة من بؤرة "تقوع د" الاستيطانية قالت له بعد البث: "وضعت مرآة امام عيوننا".
أقوال بهذه الروح قالها اللواء شلومو غازيت، الذي كان رئيس الحكم العسكري ومنفذ سياسة "العصا والجزرة" ونهج "الاحتلال المتنور" من مدرسة موشيه دايان. "هم مستوطنون منذ 50 سنة"، يقول له دوتان، "ربما تكون 500 سنة اخرى"، وعلى هذا يرد عليه غازيت بدعابة: "انا ابن 88، فهل هذا يعني انني سأصل الى عمر 880؟".
ومع ذلك، فان هذا الفيلم في نظري باعث على اليأس. وذلك لأنه يضع مرآة، ليس امام المستوطنين، كما أمل المخرج، بل امام عيون قسم من الجمهور الاسرائيلي، ذاك الذي يعارض الاحتلال والمستوطنات. والمرآة تعلمنا كيف أن قصر نظر الزعماء وجبنهم، المناورات السياسية والغمز واللمز، مضافا اليها عدم اكتراث الجمهور الغفير واستسلامه امام تصميم رجال "غوش ايمونيم" المفعمين باحساس الرسالة كفريضة ربانية وتمسكهم بالمهمة خلد الاحتلال الاسرائيلي والمستوطنات وجعل الوضع "لا مرد له"، مثلما سبق أن قال ميرون بنفنستي قبل نحو ربع قرن، بوعي أغضب في حينه الكثيرين.