رغم أن البعض يحاول أن يظهر بأن ملف ما يسمى بموظفي غزة هو ما يعيق انطلاق عجلة إنهاء الانقسام، فإن حقيقة الأمر هي غير ذلك تماماً، وعلى الرغم من أهمية هذا الملف، إلا أنه ليس الملف الأهم، الذي يستحيل حله في ظل استمرار حالة الانقسام بين طرفيه في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، فملف إعمار قطاع غزة، مثلا، كذلك ملف الحصار، والملفات المتعددة الخاصة بالخدمات، مثل الكهرباء والمياه، الصحة والتعليم، كلها ملفات في غاية الأهمية، خاصة وان مرور الوقت، دون أن تبدأ عجلة الإعمار بالدوران، يعني أن همة العرب والأجانب الذين تعهدوا بالمشاركة في عملية الإعمار بتقديم مليارات الدولارات، ستهمد ومن ثم تخمد، وفي آخر الأمر ستتبدد، كما حدث من قبل بعد حرب العام 2008 / 2009.
أولا وقبل كل شيء، لابد من استعارة بعض مصطلحات حركة حماس نفسها، التي كثيرا ما تحدثت بها، في مواجهة استحقاق ما هو مطلوب منها أن تقوم به، ونقصد بذلك قولها بأن المطلوب التقدم بكل ملفات المصالحة (التعبير الأدق والأصوب والذي تتجنبه "حماس" بالطبع هو إنهاء الانقسام وليس المصالحة) دفعة واحدة، فمن غير المفهوم انه يمكن التوصل لحل ملف من تلك الملفات المزعجة والتي تثقل كاهل الفلسطينيين (ومنها ملف موظفي حكومات "حماس" السابقة بغزة) دون حل الملفات الأُخرى، حيث أن الملفات يتداخل بعضها مع بعض، المهم أن "حماس" أخذت في الآونة الأخيرة تطالب بتنفيذ ذلك الملف دون غيره، وتعتبره مهمة واجبة التنفيذ أمام حكومة التوافق بين حركتي فتح وحماس !
كيف يمكن أن يفهم العقل أن تقوم _ هكذا _ حكومة التوافق بصرف مرتبات نحو 40 ألف موظف، دون أي تدقيق في ملفات توظيفهم، خاصة وأنهم توظفوا في ظل الانقسام المقيت، وحيث لابد دائما من الأخذ بعين الاعتبار ما يضعه المانحون من معايير لها علاقة بهذا الشأن، هذا أولا، ثانيا، كيف يمكن لحكومة أن تدفع رواتب موظفين لا يلتزمون بتنفيذ قراراتها، ولا يخضعون لسياساتها، ولعل خير دليل على هذا عدم قدرة وزراء الحكومة أنفسهم على ممارسة صلاحياتهم في غزة!
المهم أيضا أن "حماس" ترفض أن يتم ربط مسألة موظفيها بموظفي السلطة، الذين كانوا بمرتباتهم وترقياتهم وممارستهم لوظائفهم ضحايا انقلاب "حماس"، التي منعت معظمهم من الوصول لمكاتبهم، في الوقت الذي كان يستحيل على بعضهم ممارسة صلاحياتهم الوظيفية في ظل حكم متمرد على الحكومة المركزية التي تصرف لهم مرتباتهم. إذن من الضروري أن تبدي "حماس" المرونة في هذا الملف، بما في ذلك السماح للجانب الإداري / القانوني أن يأخذ دوره في حل هذا الملف، وان تقبل دون تردد ربط حل ملف موظفي غزة من جانبيه (موظفو السلطة الذين ما زالت تمنعهم من الوصول لمكاتبهم، وموظفوها الذين هم مواطنون، لابد من تسوية وضعهم بشكل قانوني)، وإلا فإنها ما زالت تراهن على سيطرة شكلية للسلطة على غزة، من الخارج، وأمام العالم الخارجي، وقبل كل ذلك تسليم المعابر (جزء من موظفيها الذين تطالب بصرف رواتب لهم دون قيد أو شرط أو تدقيق، مقابل ورقة الشاطئ، هم موظفو المعابر الحمساويون).
وبعد أن لاحت بارقة أمل حين وافقت السلطة المركزية بشكل تام على الورقة السويسرية التي تقدم خارطة طريق لحل هذا الملف، أبدت "حماس" موافقة مشروطة أو ناقصة، قالت إنها توافق عليها مع ملاحظات على نقاط عديدة فيها، بعد أن كانت أعلنت بأن مطالبة حكومة التوافق بعودة موظفي السلطة المعينين قبل عام 2007 لمكاتبهم، حتى يتم البدء بتعيين موظفي "حماس" بمثابة خط أحمر أو حرب أهلية!
المشكلة أن "حماس" على عكس التوقعات ما زالت لا تبدي أية مرونة ضرورية من اجل التوصل لحلول لكل ملفات الانقسام، بما في ذلك ترك ملف موظفي غزة، للموظفين أنفسهم يتابعونه بالطرق القانونية والنقابية، لأن تنطع "حماس" لهذا الملف يضفي عليه الطابع السياسي ويجعل منه رهينة التوصل لاتفاق فعلي ونهائي وكامل بين حركتي فتح وحماس ( كذلك فإنه لا يجوز تعيين هؤلاء بدافع وعلى خلفية انتمائهم الحزبي لـ "حماس"، بل لا بد من التعامل معهم أولا على أنهم مواطنون لهم الحق في الحياة الكريمة على قاعدة الضمان الاجتماعي بحده الأدنى، ثم بعد ذلك إعطاؤهم حقهم وفق الكفاءة والمؤهل والحاجة الوظيفية)، بهذا الشكل الذي يجعل فيه قادة "حماس" من ملف موظفي غزة، ورقة خلاف وصراع ومادة تحريض، سيظل نحو 40 ألف عائلة تنتظر منذ أكثر من عام قوتها، وما يسد رمقها، بعد أن باتت قضيتها ورقة للشد والرخي وللصراع السياسي الداخلي.
لتفتح "حماس" الطريق واسعاً أمام تنفيذ الورقة السويسرية، وتضع السلطة التي وافقت عليها دون أي تحفظ، لأنها جاءت من طرف دولي / أوروبي بما يعني عدم تحفظ المانحين على آليات تنفيذها، أمام الاختبار والمسؤولية الوطنية والشعبية . ولا تقوم بدور "الفأر" الذي اعتاد قضم الجبنة السويسرية، بما حولها إلى قطعة مليئة بالمسامات والثقوب التي تسمح بدخول وتسلل ألف متسلل ولص من اجل تخريب الملف الذي قد لا يكون أهم ملفاتنا الداخلية، لكنه على درجة فائقة من الأهمية لأنه يمس حياة أكثر من 40 ألف عائلة غزية، تعاني الأمرين، بعد حروب ثلاث ضروس وبعد سنوات سبع عجاف من الانقسام، ومن حكم لم يوفر للناس أدنى مقومات الحياة، فرفقا بحياة هؤلاء يا "حماس"، ولعل وعسى أن لا تنطفئ بارقة الأمل بانطلاق عجلة الإعمار وفك الحصار، لذا نقول لكم بملء الفم: ارفعوا أيديكم عن غزة، واسمحوا لحكومة التوافق أن تتمكن فيها، ومن ثم تقوم بواجبها، في الإعمار وفك الحصار وإطعام الناس.