علمانية أم حريدية؟!

730S20151223145523
حجم الخط
منذ 28 سنة تقوم د. مايا حوشن بإنتاج التقرير السنوي عن القدس لصالح معهد ابحاث اسرائيل المقدسي – كتاب ينشر كل سنة بمناسبة «يوم القدس» وفيه عدد من المعطيات الاحصائية عن المدينة. وقد تحول نشر الكتاب الى أحد مراسيم «يوم القدس»، حيث تركز وسائل الاعلام والسياسيون في اطاره على معطيات الهجرة من المدينة والعلاقة الرقمية بين الاوساط الثلاثة: العلمانيين والحريديين والعرب.
حسب التقارير الاولى التي قامت حوشن باعدادها في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات فإن 20 في المئة من اليهود في العاصمة اعتبروا أنفسهم متدينين. وفي هذه السنة وصلت نسبة الحريديين في القدس الى 34 في المئة. تلائم الارقام الصورة عن القدس كمدينة تزداد حريدية، حيث إن ماضيها العلماني أصبح من ورائها. ولكن من يعرف المدينة يعرف أن الصورة معقدة أكثر من المعطيات الجامدة. تتذكر حوشن جيداً أنه اثناء العمل على التقارير السنوية الاولى، حينما كانت تخرج من المعهد في حي رحافيا في الليل، لم يكن هناك أي مقهى مفتوح في الطريق بين المعهد وبيتها الذي لا يبعد كثيرا عن هناك في شارع غزة.
اليوم الصورة مختلفة تماما – في الطريق القصيرة هذه توجد خمسة مقاه ومطاعم. أحدها «غزة 40» يفتح ابوابه ايضا ايام السبت، والمقهى الذي بجانبه هو «كروسالا»، يحمل بفخر شهادة ترخيص بديلة. في قائمة المقهى الثالث وهو مقهى «يهوشع» يمكن ايجاد وجبة «شريم اسبيراغوس». وبينها يمكن ايجاد مخبز ومحلات اخرى. «أذكر أننا كنا نعمل على التقرير السنوي حتى الساعة 10 – 11 ليلا. ولكن بعد الثامنة لم يكن أحد في الشارع. كان محل لبيع القبعات. اليوم أنت تسير وترى الاضواء في كل مكان، توجد حركة للشباب والطلاب»، قالت حوشن في محاولة لاظهار الفجوة بين الصورة والارقام والواقع. لذلك ترفض حوشن لعب الدور الذي يوكلونه اليها كنبية للغضب في بوابات العاصمة، وهي تتوقع مستقبلا مريرا للعلمانيين والليبراليين. إنها تقدم صورة مركبة لها أبعاد كثيرة، بل متفائلة. ويمكن أن تكون متفائلة جدا.
المتشائمون العلمانيون في القدس يشيرون الى معطيات جهاز التعليم على أنها تعكس الواقع المستقبلي في القدس. صحيح أنه منذ العام 1999 يشكل الطلاب الحريديون نصف طلاب المدارس في القدس. ومنذئذ، الفجوة بينهم وبين طلاب التيار الرسمي والتيار الرسمي الديني في تزايد. اليوم هناك أكثر من 100 ألف طالب حريدي في القدس. وفي المقابل 63 ألف طالب علماني وديني قومي فقط. وعلى الرغم من ذلك، فان زيادة نسبة الحريديين في المدينة معتدلة نسبيا. التفسير الرئيس لهذه الظاهرة هو أن اغلبية الطلاب في القدس من الحريديين، في الوقت الذي يشكل فيه الوسط الحريدي ثلث السكان اليهود في المدينة وخمس اجمالي السكان بشكل عام. وسبب ذلك هو الهجرة الحريدية الكبيرة من القدس الى خارجها.
«في السنوات الاولى كانت الاسئلة تتمحور حول الديمغرافيا لليهود والعرب. ولم يتم طرح الموضوع الحريدي تقريبا. في التسعينيات بدأوا يتحدثون عن مشكلة الهجرة السلبية للعلمانيين»، قالت حوشن، «أذكر أنه كان يوم دراسي لمسؤولي البلدية عن موضوع الهجرة. قلت إن الحريديين يزدادون وفي النهاية سينتقلون من القدس. مئير بوروش، الذي كان نائبا لرئيس البلدية، رد بصورة شديدة. أنت لا تعرفين ما الذي تتحدثين عنه. الحريديون لا يخرجون من هنا، قال لي. قلت إنه مثلما حدث مع الاحياء الجديدة، حيث تطلب وقت الى أن ترك الحريديون مركز المدينة باتجاه الخاتم الخارجي، فان هذه فقط مسألة وقت الى أن يغادروا الى الاحياء المحيطة».
من يسافر الى المدن الحريدية التي أقامها الحريديون المقدسيون الشباب – موديعين عيليت، بيتار عيليت ورمات بيت شيمش – يعرف من انتصر في هذا الجدل، بين حوشن وبوروش. الآن تبدأ مرحلة اخرى في الهجرة الحريدية من المدينة. الجاليات الحريدية التي مصدرها عائلات مقدسية تسكن بعيدا عن العاصمة، مثلا في كريات غات واسدود وحريش وكسيف. «رأيي هو أنهم جميعا بشر. واعتبارات الارض وسعرها تفعل فعلها»، قالت حوشن.
إلا أن الارقام لا تعكس المشكلة الاساسية للعلمانيين في المدينة، وهي «تحرد» الاحياء، أي دخول مجموعات حريدية كبيرة الى الاحياء ذات الصبغة العلمانية. هذه الظاهرة تنعكس ايضا في معطيات التقرير السنوي. «أفهم أن هذا اللقاء ليس مريحا دائما، لكن الموقف بأن الحريديين يأتون كمحتلين من اجل السيطرة، ليس صحيحا. إنهم يبحثون عن اجابة لحاجاتهم».
تذكر حوشن معطى مهماً آخر يتم نسيانه احيانا بين الارقام وهو اتساع مساحة المدينة، وكل وسط من اوساطها. «القدس هي المدينة الحريدية الكبرى في اسرائيل وهي المدينة العربية والدينية الكبرى. وبالنسبة للعلمانيين فان تل ابيب فقط أكبر منها. اذا أخذنا مثلا مبسيرت أو موديعين فان المدارس التي فيها هي أصغر كثيرا وليس هناك امكانية لاختيار الاطار التعليمي الذي تريده. الامر موجود في القدس فقط».
حوشن على قناعة أن نسبة التكاثر الطبيعي الحريدية التي تفرض الواقع الديمغرافي في العقود الاخيرة في القدس تقف أمام التغيير، الامر الذي سينعكس في انخفاض عدد الولادات في العائلة. «هذه العملية منهجية في كل العالم، حيث تخرج النساء الى سوق العمل ويتعلمن أكثر ويتعرفن على اوساط اخرى. الامر الذي يؤدي الى انخفاض الولادات. ليس هناك مكان في العالم لا يحدث فيه ذلك. والسؤال هو ليس اذا كان يحدث، بل متى. ففي نهاية المطاف كلنا بشر».
بشكل تاريخي، سكان القدس منقسمون بين علمانيين وحريديين وعرب. ولكن هذا التصنيف يتجاهل وجود وسط مهم جدا في القدس آخذ في الازدياد وهو المتدينون الذين ليسوا حريديين. «لقد تعاملوا معهم ومع العلمانيين على مدى السنين على أنهم وسط واحد، وهذا غير صحيح»، قالت حوشن. «يوجد للقدس قدرة على جذب المتدينين. يوجد هنا تركيز كبير جدا للمتدينين أكثر من أي مكان آخر. الكثير من الشباب يأتون الى هنا للبحث عن الزوج/ الزوجة ويوجد جهاز تعليم متطور جدا».
هناك أبعاد سياسية لهذه الظاهرة. فمن يريد أن يكون رئيسا لبلدية القدس يجب عليه الحصول على تأييد السكان الحريديين. ورغم زيادة نسبة الحريديين في القدس، إلا أن اليوم الذي سيكونون فيه اغلبية ما زال بعيدا. ويبدو أنه لا يمكن ادخال مرشح حريدي الى مكتب رئيس البلدية دون تأييد المتدينين. وفي عمليتي الانتخابات الاخيرتين انتصر الائتلاف الذي شكله نير بركات بين الجمهور العلماني والديني. وهذا الائتلاف اذا صمد سيستمر في تنصيب رؤساء البلدية بشرط أن لا يبقى العلمانيون في البيت في يوم الانتخابات.
أحد اسباب تفاؤل حوشن هو المبنى الذي تعيش فيه في رحافيا، وهو مبنى قديم في حي قديم أصبح طاعنا في السن. ابنها يبلغ الآن 25 سنة من عمره وهو الولد الاخير الذي ولد في المبنى قبل عامين.
خلال العامين الاخيرين ولد اربعة اولاد للعائلات في المبنى. «دائما يقولون إن رحافيا طاعنة في السن. ولكن في نهاية المطاف يموت الجميع وايضا الاحياء المسنة تصبح شابة»، قالت. المبنى هو نموذج مصغر مشجع لسكان القدس، تسكن فيه عائلة حريدية وطالبات متدينات وحوشن العلمانية وزوجها وعائلة عربية.
ظاهرة مهمة اخرى تظهر في المعطيات وهي الاستقرار الواضح في الميزان اليهودي- الفلسطيني في المدينة. منذ 1967 زاد عدد السكان العرب في العاصمة. ففي 1967 كان العرب يشكلون 25 في المئة من السكان في المدينة والآن يشكلون 37 في المئة. ولكن في العقد الاخير هناك تراجع حاد في نسبة الولادة بين السكان الفلسطينيين. وفي اوساط اليهود بقيت نسبة الولادة مرتفعة، حيث تصل الى 4.3 ولد للمرأة في المتوسط. وفي هذه السنة تجاوز التكاثر اليهودي الطبيعي التكاثر العربي، الامر الذي يحدث لاول مرة.
          قبل عشرين سنة سافرت حوشن الى بلفاست، عاصمة ايرلندا الشمالية، التي كانت مقسمة في حينه بين جاليتين هما الكاثوليكية والبروستانتينية. وفي مركز المدينة، كما قالت، كان هناك فصل تام. فأبواب المحلات لُونت لمعرفة ديانة صاحب المحل، حتى لا يقوم أحد بشراء أي شيء من الجالية الاخرى. «عند الابتعاد الى الضواحي يمكن ايجاد كاثوليكيين وبروتستانت يعيشون معا. الى هناك انتقل الشباب من الطبقة الوسطى والعليا، حيث إن هويتهم الاقتصادية كانت أقوى من هويتهم كجزء من الجماعة الدينية. وهذا ما نلاحظه في القدس ايضا. حريديون وعرب مثقفون مع دخل مرتفع يدخلون الى احياء الطبقة الوسطى ويسكنون هناك».
«يقولون لي طوال الوقت، أنت ستطفئين النور. وأنا أقول إن هناك اشخاصاً يفضلون العيش بجانب من يشبههم. ولكن هناك ايضا من يفضلون أن يكون السكان متنوعين وأن لا يشاهدوا فقط من يشبههم»، قالت حوشن. «هناك علمانيون يرتدعون عند مشاهدة أحد ما وهو يضع القبعة في المقهى. ومن اجل التواجد في المقهى مع متدينين وعرب وشباب ذوي وشم وحريديين، فان هذا أمر ممتاز. من لا يحب الآخرين لا يصلح ليكون هنا».