آذار

Sadeq-Alshafy
حجم الخط
يأتي آذار في موعده في كل عام مزيناً بالجمال الرباني، ومحملاً بالمعاني والقيم، وغنياً بإرث النضال والبطولة. يأتي ليعلن قدوم الربيع يحمل في طياته جمال الطبيعة وعرس ألوانها الآسر وسحر الطقس وإنعاشه.
لم يتأخر مرة عن موعده ولم يتخفف مرة من كامل حمولته.
يأتي مزيناً بحلته القشيبة من جمال مبهر يكسو الجبال والسهول والوديان، في تنوع لا محدود من الألوان والأشكال والروائح تخرجها الأرض المرتوية بماء المطر المبارك، وتتزين بها أغصان الأشجار وفروعها،  كـأنها العروس في ليلة جلوتها.
تخرج الأرض حنّونها زاهياً متبختراً بألوانه المتنوعة، وما يحمله أحمرها من رمز للشهادة والشهداء، وتخرج أشقاء الحنون بألوانها المتنوعة والمتقاربة تحمل الى جانب الجمال غذاءً ودواءً مجانيين من الزعتر الى الميرمية وغيرهما تمنحه للفقراء ولمحبي ما تنبت الأرض جوداً من ذاتها دونما تدخل أو صنعة.
وتعرض الأرض بزهو وخيلاء تفتح البراعم على رؤوس أشجارها بالأبيض الزاهي وطهارته متربعاً على رأس اللوزة، والأبيض الموشح بألوان متنوعة على رؤوس اللوزيات الأُخرى.
ويزرع آذار وربيعه في الناس الراحة النفسية والبِشْر والإشراق. هل شعرت بحالة من الراحة النفسية أكثر من تلك التي تشعر بها وانت في وسط الطبيعة البكر خارج المدينة او على أطراف قرية او على سفح جبل؟ وكم مرة تضاعفت هذه الحالة وانت على ارض وطنك وتقف فوق تضاريسه.
ويأتي آذار محملاً بمعان وقيم إنسانية عليا.
وهل هناك قيمة أعلى من قيمة الاحتفال بالمرأة في عيدها العالمي. المرأة حافظة النوع وضامنة استمرار الحياة الإنسانية ومربية الأجيال والشريكة الكاملة والمتساوية مع الرجل في بناء الوطن وتقدمه لكل أهله ومواطنيه على قدم المساواة، وشريكته في النضال من اجل تحرر الوطن، كما في الحالة الفلسطينية.
ثم هل هناك قيمة أعلى من قيمة الاحتفال بيوم عيد الأم بكل ما تحمله من قيم ومعاني الرحمة والتضحية والفداء وأسمى ما في الوجود من المعاني والقيم الأُخرى.
ألم يكن اختيار الثامن من آذار عيداً عالمياً للاحتفال بالمرأة، ويوم الحادي والعشرين من نفس الشهر يوماً آخر للاحتفال بالأُم من لمحات عبقرية وسمو إنسانية المجتمع الدولي؟
وأما عن إرث النضال والبطولة، فكأنها مصادفة قدرية ان يحضر يوم الكرامة في آذار1968، وفي نفس يوم عيد الأم، لتقترن قيمة البطولة مع قيمة التضحية وليجسدا معاً ذروة عليا للقيمتين كل منهما بذاتها، ثم بتداخلها مع الأُخرى.
ومع الكرامة يحضر ياسر عرفات، يأخذ مع إخوانه قرار الصمود والمواجهة والالتحام مع قوات الاحتلال التي تهاجم ارض الكرامة الأردنية، وقرار البقاء على ارض المعركة ليقودها.
وتحضر بطولة الفوسفوري وكل فدائي بطل تواجد على ارض الكرامة وجوارها من كل تنظيمات الثورة يندفع لقتال قوات العدو والالتحام معهم بلا تردد او انتظار لقرار.
ويحضر أيضا مشهور حديثة رئيس أركان الجيش العربي الأردني، يأخذ قرار المشاركة بالمعركة والتصدي للعدوان وتلتحم مدفعية قواته مع الفدائيين ليصنعوا معا أول نصر عربي بعد هزيمة حزيران 1967.
وكان ليوم الكرامة ما بعده الكثير الكثير. كان اندفاع سيل المتطوعين فلسطينيين وعرباً للانخراط في صفوف المقاومة وكان الدعم والمساندة العربية ثم العالمية الواسعة، وكان توحد القيادة الثورية المسلحة مع القيادة السياسية في كيان موحد هو منظمة التحرير التي أصبحت بحق الكيان السياسي الجامع لكل الشعب الفلسطيني وقواه المناضلة.
ويأبى آذار ان يغادر قبل أن يأتي بيوم الأرض في الثلاثين من أيامه. يوم هبت جماهير مناطق 1948 تدافع عن انتهاكات دولة الاحتلال للأرض واعتدائها عليها ونهبها لها، وسقط في هذه الهبة شهداء وجرحى كثيرون.
ويومها هبت الجماهير الفلسطينية في كل مناطق الوطن والشتات في مسيرات ضخمة تشارك في تلك الهبة كل من موقعه.
في المهرجان الذي أقيم في بيروت في يوم الأرض الأول، ملأت الجماهير قاعة قصر اليونيسكو وطرقاتها والساحات المحيطة بها. كان على رأس المهرجان ياسر عرفات والدكتور جورج حبش ( الحكيم) على ما كان بينهما من خلافات سياسية بالذات بعد إقرار برنامج النقاط العشر بأغلبية المجلس الوطني في صيف 1974، وكان قادة آخرون.
منظمو المهرجان اجتهدوا ان يكون ياسر عرفات آخر الخطباء كما جرت العادة، ودعوا الدكتور جورج حبش ليكون أولهم. يومها صعد الدكتور حبش الى مسرح القاعة حيث الميكروفون، ببطء وصعوبة بسبب حالته الصحية، وعندما استلم الميكروفون وهدأت الجماهير الهاتفة بانفعال شديد قال كلمات قليلة "في مثل هذا اليوم للثورة كلمة واحدة يلقيها قائد الثورة الأخ أبو عمار". القاعة اشتعلت بهتافات التمجيد لهذا الموقف. وعندما بدأ الحكيم بنزول درجات المسرح ركض ابو عمار سابقاً كل من حاول المساعدة ليكون أولهم وليرفع يده مع يد الحكيم ولتشتعل القاعة بهتافات اكثر حماسة وتأييداً.
ومع كل قدوم لآذار، تتجدد الذكرى وتتجدد معها المسيرات والمهرجانات وأشكال نضالية أُخرى.
هذا العام تميزت الذكرى بحدثين إضافيين نوعيين:
الأول نجاح القوى الفلسطينية الأساسية في أراضي 1948 بدخول الانتخابات التشريعية بقائمة موحدة، دعمها الناس لهم وزادت نسبة مشاركتهم بالاقتراع بما مكن القائمة من تحقيق نتائج جيدة. والثاني، تنظيم "مسيرة العودة" التي بدأت من النقب سيراً على الأقدام حتى وصلت القدس بعد أربعة أيام قطعت خلالها 130كم. قاد هذه المسيرة رئيس القائمة الموحدة وقيادات من أحزاب القائمة وقوى اخرى. وكان الهدف منها التوعية بمعاناة القرى غير المعترف بها في النقب والمحرومة من ابسط ضرورات الحياة.
انه آذار يوم ترى الأرض اهتزت وربت وانبتت من كل زوج بهيج.
انه آذار يوم تجدد المعاني والقيم العليا ودروس النضال والبطولة ذاتها، وتؤكد حضورها.