الانقسام في ذكراه التاسعة

د.عاطف ابو سيف
حجم الخط

لم يكن أحد يتصور أن يستمر الانقسام الفلسطيني تسع سنوات ويدخل عامه العاشر بكل ثقة دون أن تترنح أسواره وتتهتك قواه، بل يبدو في عامه العاشر أكثر قوى وأشد متانة.
إلى جانب كل ذلك فإن كل الجهود لوقفه باءت بالفشل، وباتت عملية تجسيد الوحدة الوطنية عبر إنهائه أكثر تعقيداً من عملية التحرير ذاتها، أو على الأقل هكذا يمكن أن يبدو الأمر لأي مراقب خارجي. وتماهت في ذلك المطالب الحزبية والرغبات الشخصية والضغوطات الخارجية بحيث بات يتعذر على المرء أن يفصل بينها أو أن يعرف الصواب من الخطأ فيها. وعليه فإن السنوات التسع التي مضت ربما تكون خانة واحدة في تعداد أطول لسنوات ستأتي دون أن ينتهي الانقسام.
لا بد أن يتذكر الفلسطينيون دائماً تلك اللحظات السوداء التي تم فيها حمل البندقية الفلسطينية وتصويبها نحو الصدر الفلسطيني، وحين قرر البعض أن الدم الفلسطيني ليس خطاً أحمر، وأن فكرة الخط الأحمر أكذوبة كبيرة. هل أصبنا بصدمة؟! ليس تماماً إذ إن شهوة السلطة والحكم كانت أقوى من الشعور الوطني وأعلى قيمة من المصلحة العليا أو هي المصلحة العليا برمتها.
لا بد أن الدم الفلسطيني الذي أريق في الطرقات والمناضلين والأسرى الذين استشهدوا أو جرحوا سيظلون لعنة تطارد عجزنا الأجوف عن تحقيق الوحدة الوطنية وطي الصفحة السوداء حتى نقول لدماء من رحلوا بكبرياء وهم يذودون عن حرمة الدم إننا آسفون، إننا بشر ونخطئ، إننا لسنا ملائكة، ولأننا لسنا ملائكة فنحن نعتذر.
كما سيظل معيباً بحقنا أن مرحلة الحوار الوطني باتت أكثر تعقيداً من مرحلة عملية السلام مع إسرائيل. بل إن خلال عملية السلام (التي على كل قارئ أن ينعتها بما يشاء) كان يتم تقديم بادرات وتسهيلات وبعض التقدم الأعرج، لكن خلال عملية الحوار الوطني كان الوضع ميدانياً يزداد سوءاً ويتصاعد الاعتقال السياسي والمنع من السفر. مثلاً "فتح" تفاوض لأكثر من سبع سنوات الآن ومكاتبها في غزة مغلقة وبعضها تحول إلى مقر للشرطة.
لم يعد هناك حوار وطني بل عملية حوار وطني حيث وفق المفاهيم الأميركية فإن ما يهم ليس نتيجة العملية ومخرجاتها بل العملية ذاتها. يجب ألا يموت المريض لكنه يجب أن يظل مريضا. بذلك فإنه يمكن تخيل أن أي جولة حوار قادمة لن تكون مختلفة عن الجولات السابقة، بل إنها ستزيد من تعقيد الأمور. كأننا سنكتشف في كل جولة حوار عقبة لم نكن ندركها من قبل، وسنبدأ حوارات جديدة للبحث عن حل لها. وما أن نصل لهذا الحل حتى نكتشف أزمة جديدة، وهكذا دواليك في متتالية لا تنتهي. وسيبدو التفاؤل في كل مرة ليس بأكثر من انبهار إعلامي لا يقدم أي بشارة للمواطنين، إذ إن الإيهام بالنجاح أهم من النجاح.
وهذا يقود لملاحظة أخرى يجب أن تشعرنا بالعجز أيضاً. فالناس لم يعودوا يهتمون كثيراً بتفاصيل عملية الحوار الوطني. لا يهمهم إذ كانت فعلاً "حماس" تجلس مع "فتح"، ولا يهم كثيراً حقيقة الإشاعات حول دعوات قطرية أو مصرية أو تركية أو سعودية لجلب الطرفين إلى طاولة واحدة. حتى تشكيل حكومة وحدة وطنية لم يعد يهمهم. لقد باتوا مثل سكان القرية والراعي الذي يحذرهم من الذئب، لم يعودوا يصدقون أي حديث عن المصالحة. ليس أن المصالحة لا تهمهم، وليس لأنهم لا يدركون أهمية المصالحة في حياتهم، وليس لأنهم يحبون الانقسام، ولكن لأنهم ملوا من كثرة ما شاهدوا المصافحات واللقاءات والابتسامات، وملت قلوبهم الفرح المزعوم الذي يصيبهم بجلطة في كل مرة تفشل فيه الصورة عن أن تكون حقيقة.
كما لا بد أن نشعر بالخجل كفلسطينيين أن جهود المصالحة تظل ميتة إلى أن تأتي دعوة من الخارج تحركها.
من المحزن أننا لم نجلس يوماً لأننا شعرنا بوخزة ضمير أو لأننا أدركنا أن هذا المسلسل المبكي لا بد أن ينتهي، بل عادة ما نجتمع لأن هناك من قرر دعوتنا وجمعنا مع بعضنا بعضاً لإصلاح ذات البين. فالقوى الخارجية أكثر تأثيراً منا في رغبتنا في تحقيق المصالحة. ويمكن تعداد الوسطاء وفترات تدخلهم بحيث يصار إلى تقسيم مرحلة الحوار الوطني إلى مراحل باسم الوسطاء فمن الدور المصري إلى الدور القطري فالتركي فالسعودي ودور الجامعة العربية والدور الروسي. وربما أخذت الاتفاقيات الفلسطينية الفلسطينية من أسماء المدن العربية أكثر مما أخذت من فلسطين: وثيقة الدوحة، اتفاق القاهرة، وثيقة صنعاء وغيرهم.
أحد أهم نتائج كل ذلك أن الانقسام بات مواطناً صالحاً في النظام السياسي الفلسطيني. وبصورة وبأخرى بات مكوناً أساساً في هذا النظام. وسنسجل أننا قدمنا للخبرات السياسة في العالم نموذجاً فريداً تكون فيه حكومة عليا ليست ذات صلاحية فيما هناك حكومة ميدانية تدير شؤون الناس فيما تقوم الحكومة العليا بعمليات صرف واسعة. أظن أنه سيعز علينا كثيراً التنازل عن الانقسام.
الأكثر إيلاما هو حالة التراجع المستمر الذي نعيش فيه. لنأخذ مثلاً واقع غزة المرير من حصار وتدمير وأزمة كهرباء ومعابر وضيق مساحات الصيد، ونقص المعدات الطبية والعلاج وعدم نقاء مياه الشرب، وتعثر عملية إعادة البناء وغلاء الأسمنت وعدم تطوير البنية التحتية، وارتفاع معدلات البطالة بشكل مهول وتفشي الفقر بجانب المشاكل البيئية والصحية.
لا يوجد من يضمن أن هذا سيكون العام الأخير للانقسام، وأن الأخير يصبح من الماضي الأليم. كما أن سنوات أخرى ستمر ونحن نندب عجزنا عن القفز عنه، وسنظل نشعر بالخزي ونحن نتذكر اللحظات الألمية التي أريقت فيها دماؤنا وبأيدينا دمرنا ما بناه الشهداء وما ناضل من أجله الجرحى والأسرى. كما أنه لا يوجد من يضمن أن الحال لن يزداد سوءا، وأننا سنكون قادرين على تجاوز آلام العقد الأول للانقسام ونحن نتطلع للمستقبل.