مصادفة لافتة، وهي أنه في الوقت الذي كان الرئيس فرنسوا هولاند يستضيف «المبادرة من أجل السلام»، الهادفة إلى استئناف المحادثات بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية، كانت الأمطار تهطل بغزارة على باريس ومناطق فرنسية كثيرة، كما ليس مألوفًا في مِثل شهر يونيو (حزيران) من السنة، وكان نهر «السين» يفيض إلى درجة احتمال حدوث مخاطر تهدد بعض ما على ضفافه من مبانٍ ومراكز تراثية، مثل مبنى وزارة الخارجية وبعض المتاحف، أهمها متحف «اللوفر»، وتتعطل حركة السياحة النهرية، ويعلن الرئيس هولاند حال «الكارثة الطبيعية» للتعامل مع الأضرار المادية الكبيرة التي حدثت في العاصمة وبعض المدن، خصوصًا نتيجة انقطاع الكهرباء وسقوط ضحايا.
بطبيعة الحال كان التسعة والعشرون مشاركًا في القمة، وهم، إلى جانب الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، وزراء خارجية دول معنية بالصراع العربي - الإسرائيلي، مقتنعين بأن هذا الصراع يجب أن ينتهي إلى تسوية، وإلاَّ فإن العنف سيصل مستقبلاً إلى درجة أن لا دولة ستَسلْم منه، وذلك لأن نوعية غير مرئية من الإرهاب ستدق أبواب النائمين على حرير في أوروبا والولايات المتحدة وغيرها من الدول. ونقول ذلك على أساس أن ظاهرة الإرهاب كانت بمثابة شتلة غرسها المجتمع الدولي في فلسطين، وبسببها سارت الأمور إلى ما تعيشه المنطقة في هذه المرحلة بالذات، ثم بدأت النار تلسع القارة الأوروبية، نتيجة تدفُّق اللاجئين إليها. والشتلة المشار إليها هي إسرائيل التي قامت على أنقاض وطن آخرين رماهم الفِعل الدولي الظالم لاجئين يتوزعون على بعض دول الجوار إلى جانب بعض دول العالم.
نفترض أن سعي الرئيس هولاند، ومحاولته تسويق مبادرة للسلام، سيثمر خطوة متقدمة على طريق التسوية التي تزامن استنباطها والبدء بتسويقها مع الذكرى الثامنة والستين للنكبة (15 مايو/ أيار 1948) التي أدت إلى احتلال 78 في المائة من أرض فلسطين التاريخية ورمْي أصحاب الحق خارج ديارهم لاجئين في مخيمات واستبدال الصهاينة الذين اغتصبوا الوطن بهم، بموجب الصفقة التي أبرمتْها معهم بريطانيا، وتتمثل في وعد بلفور، 2 نوفمبر (تشرين الثاني) 1917. يا لهذه الندبة السوداء في جبين بريطانيا! وهي ندبة صار لزامًا على جيل الألفية الثانية من الإنجليز وليس من الفرنسيين إزالتها ﺑ«وعد منصف» يصحح «الوعد الظالم». ونستحضر للمناسبة من الذاكرة عبارة قالها الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز (كان ما زال وليًا للعهد) لرئيسة الحكومة البريطانية مارغريت ثاتشر، خلال زيارته الرسمية الأولى لبريطانيا عام 1988. والعبارة هي: «إن وعْد بلفور عار يجب على الجيل الحالي في بريطانيا أن يصححه».
لم تشق المبادرة الفرنسية طريقها نحو إيجاد تسوية، لأن بنيامين نتنياهو الفاغر فمه لافتراس القدس عاصمة موحَّدة لإسرائيل، يعطِّل سلفًا أي تسوية موضوعية للصراع العربي - الإسرائيلي، مطمئنًا في تعطيله إلى أن الراعي الأميركي معه ضد العرب والمسلمين، ودائمًا جاهز لاستعمال «الفيتو» اللعين.
لقد اختار نتنياهو المتطرف أفيغدور ليبرمان وزيرًا للدفاع، وهو المتعطش لإرواء التطرف والعنصرية والتعصب، إنما تعمَّد ذلك بغرض تكثيف الأجواء الرافضة لأي تسوية وبالذات المبادرة الفرنسية، غير مكترث بالانتقادات الموجَّهة إليه من رموز سياسية لاختياره ليبرمان وزيرًا للدفاع، مع ما يتسبب به هذا الاختيار من حساسيات داخل الجيش، لأن ليبرمان ليس مِن خلفية عسكرية، فضلاً عن أنه شغل في السابق وظيفة حارس أحد النوادي الليلية، وهذا يحدُث للمرة الأولى، حيث وزراء الدفاع هم من الجنرالات، كان آخرهم الوزير المقال بصيغة استقالة موشي يعلون، الذي بعد «استقالته» قال إن نتنياهو «رسَّخ العنصرية والتطرف في المجتمع والجيش».
وهذا التوصيف برسم الرئيس هولاند لكي يتدبر الأمر، قبل أن يحقق مسعاه بعقد مؤتمر دولي في الخريف يشارك فيه الجانبان الفلسطيني والإسرائيلي، وعشرون دولة عربية وأجنبية، وكذلك الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، وحيث إن ليبرمان هو مَن قد يوكَل إليه ترؤس الجانب الإسرائيلي، فمن المهم أن لا تغيب عن الذاكرة الفرنسية مواقف لهذا المتطرف (الروسي الأصل الحديث الهجرة من مولدافيا السوفياتية عام 1978)، ومنها، بعدما كان أمضى ثلاث سنوات مديرًا لمكتب نتنياهو، على سبيل المثال لا الحصر قوله: «إن العرب غير الموالين يستحقون قطْع الرأس بالفأس»، وقبْل ذلك دعوته إلى قصْف السد العالي في أسوان لإغراق مصر، إذا قدَّمت دعمًا للانتفاضة الفلسطينية.
لا مجال للشك في نيات فرنسا بشأن إيجاد صيغة حل للصراع العربي - الإسرائيلي تبدأ بتسوية النزاع بين السلطة الوطنية وحكومة نتنياهو. إنما ليس كما يريد نتنياهو، وهو الاستبدال بالمبادرة مجرد حوار مباشر بينه وبين الرئيس محمود عباس تستضيفه فرنسا، أي إذا جاز التشبيه يريد تقليص المسألة إلى مجرد مناظرة، تنتهي على نحو ما انتهت إليه جولات تضييع الوقت التي قام بها وزير الخارجية الأميركية جون كيري، وها هو في مرحلة العد العكسي للانصراف مع باراك أوباما ومن دون أن يسجل كل منهما موقفًا نزيهًا تجاه حق الفلسطينيين في أن تقوم دولتهم المستقلة، وعاصمتها القدس الشريف.
قبل أن ينعقد المؤتمر الذي بدأ الرئيس هولاند بالتحضير له في ضوء التسويق غير المشجع له بما يكفي، هنالك الدورة السنوية العادية للجمعية العامة للأمم المتحدة، وبدل الرهان على المبادرة الفرنسية هنالك «مبادرة السلام العربية» التي حقق الملك عبد الله بن عبد العزيز (رحمة الله عليه) إجماعًا غير مسبوق عليها خلال القمة الدورية في بيروت عام 2002، هي المبادرة الواقعية، التي لولاها لما كان الرئيس هولاند سيطرح مبادرته ولما كان الرئيس عبد الفتاح السيسي سيطرح هو الآخر قبل هولاند مبادرته. وإذا كانت فرنسا حريصة بالفعل على حل هذا الصراع، فإن الفرحة مواتية لتقديم مشروع قرار ثلاثي (فرنسا - السعودية - مصر) إلى مجلس الأمن خلال انعقاد الدورة العادية للجمعية العامة، يحدد سقفًا زمنيًا لقيام الدولة الفلسطينية.
وبوركت همة الملك سلمان بن عبد العزيز الذي كرر في كلمته بمناسبة بدء شهر الصوم ما سبق أن قاله في كلمته لمناسبة البيعة، لجهة الحرص على لَم الشمل العربي والإسلامي اهتداء بالنهج الذي رسمه الملك المؤسس عبد العزيز، طيَّب الله ثراه، وحفظ الله للأمتين خادم الحرمين الشريفين رمز العزم والحزم والحرص على إصلاح ما تصدّع من جدار الأمة، خصوصًا أن الجدار بات جدرانًا كثيرة.
عن الشرق الأوسط