السلام ليس الآن ..

P432502
حجم الخط

هناك وجهتا نظر غير مسؤولتين تشكلان خطراً على المشروع الصهيوني: تشبّث اليمين بحقوقنا في "أرض إسرائيل الكاملة"، وتشبّث اليسار والوسط بالسلام. من السهل رؤية أن "أرض إسرائيل الكاملة" تضم مليوني فلسطيني إلى الدولة اليهودية، بينما يصر أنصار وجهة النظر المعارضة " أراض مقابل سلام"على إنكار حقيقة أنهم يقودونا إلى النتيجة عينها، لأن سياستهم تجلعنا عالقين مع أراض محتلة وسكانها ما دام أن الفلسطينيين يواصلون رفضهم للسلام الحقيقي. وبذلك يضع أنصار السلام مصير الدولة بين أيدي أعدائها الأشد تطرفاً.
لم يكن لدينا على الإطلاق، كما لن يكون في المستقبل القريب، شريك فلسطيني في تسوية سياسية يستطيع التيار المركزي في المجتمع الإسرائيلي التعايش مع مطالبها. إن تمسك ذريّة اللاجئين الفلسطينيين "بحق" العودة الجماعية إلى داخل حدود الخط الأخضر أقوى من أي وقت مضى. إنهم غير معنيين بتحمل مسؤولية دولة. وقد أثبتت الزعامات والنخب الفلسطينية خلال عشرات السنين من القرارات أنها غير مستعدة للتخلي عن وضعها كضحية حصرية يجب أن تحظى باهتمام دائم من الغرب، وبدعم عشرات مليارات الدولارات لمجتمعهم وزعاماتهم الفاسدة.
يعرف الفلسطينيون جيداً ان خيار السيادة معناه دولة بائسة، مُهملة وفاشلة. والشخص الوحيد الذي اقترح على الشعب الفلسطيني المساهمة في بناء دولة وتحمل المسؤولية عن مصيرها – سلام فياض- جرى إبعاده. والشعب الفلسطيني في غزة نصّب سلطة "بربرية متخلفة وقمعية" حاكماً عليه في انتخابات حرة، وهي تدعو إلى الحرب ولا تبالي بمصير أبنائها. في الضفة الغربية نشأت طبقة "فاسدة"، صحيح أنها في هذه المرحلة تمتنع عن المواجهة المسلحة، لكنها تقدس كل قاتل لليهود وتعتبره نموذجاً يحتذى به، وتكرس جهدها لتبرير الفشل بدلاً من إقامة البنية التحتية الاجتماعية الضرورية لبناء دولة.
في الظروف الحالية المطلوب من كل مَن يعتبر مصير الدولة عزيزاً عليه التخلص ليس فقط من الوهم الخطير الداعي إلى استعادة السيادة اليهودية على جميع أنحاء الوطن في "يهودا" و"السامرة"، بل أيضاً من الوهم المضر بأن السلام مع الفلسطينيين سيتحقق في المستقبل القريب. والنتيجة الحتمية للتخلص من هذين الوهمين هي الاستراتيجية الأحادية الجانب: يجب أن نفهم أن الهدف الصهيوني هو الامتناع عن ضم ملايين من العرب إلينا، وأن السعي الميؤوس منه  إلى اعتراف فلسطيني نهائي بوجودنا القومي لا يخدمنا. المطلوب هو العودة إلى جوهر الثورة الصهيونية التي محورها تحمل مسؤولية المصير اليهودي. والمقصود هذه المرة  إنقاذ مصير دولة إسرائيل من حق الفيتو الذي أعطيناه لأعدائنا الفلسطينيين فيما يتعلق بالانفصال عنهم بسبب مطالبتنا بالسلام كشرط مسبق لهذا الانفصال. وبمعنى معيّن، هذه "حرب استقلال ثانية" : انتصارنا في الحرب الأولى ضمن وجودنا، والمماطلة في الحرب الثانية تهدد نوعية هذا الوجود.
لا تطمح الاستراتيجية الأحادية الجانب على طرح "حل". وكل هدفها هو نقل الخطاب السياسي من نقاش ساذج وعقيم حول "ما هو الحل"، إلى نقاش مسؤول وعملي بشأن "كيف ندافع عن حاجاتنا الحيوية في ظل واقع مستمر من عدم وجود حل". وهي لا تهدف فقط إلى حرمان الفلسطينيين من حق الفيتو السياسي على الانفصال عن سيطرتنا عليهم ("سلام")، بل تهدف أيضاً إلى حرمانهم من القدرة على منع هذا الانفصال من خلال العنف ("أمن").  وهي عملية ستستغرق أعواماً وتهدف إلى اقتلاع المستوطنات اليهودية الواقعة خارج الكتل الاستيطانية في "يهودا" و"السامرة"، من دون إخراج الجيش الإسرائيلي في هذه المرحلة من هناك.
في هذه الأثناء يجب بقاء الجيش الإسرائيلي، لأنه من دون ذلك سيفرض "الارهاب" الفلسطيني الحتمي على إسرائيل إعادة احتلال "المناطق" من جديد- كما جرى في "الانتفاضة الثانية"- بصورة تمنع الانفصال مجدداً.
إن العملية الصعبة والمؤلمة لانتقال مستوطنات وسكان إلى الكتل الاستيطانية وإلى داخل حدود الخط الأخضر يجب أن تبدأ الآن من خلال خطة سخية "اخلاء - وتعويضات"، يجري خلالها الاخلاء فقط عندما يتوفر سكن بديل جاهز.
والمفارقة أن المكان الأكثر حساسية يمكن أن يشكل فرصة مثيرة للاهتمام: الانفصال عن الأحياء العربية الواقعة على أطراف الحدود البلدية لمدينة القدس والتي ضمت إليها سنة 1967 جرّاء خطأ تاريخي مؤسف، مع ضم معالية أدوميم وأحياء يهودية أخرى في منطقة القدس. هناك يمكن من دون اقتلاع مستوطنات يهودية التخلي عن السيطرة على مئات الآلاف من الفلسطينيين الذي يجعلون من القدس مدينة فقيرة وعنيفة.