لغزة وجهان، أما الوجه الأول، (الجميل) يبدو واضحا في محلات بيع وتركيب العطور!! فلا يكادُ يخلو شارعٌ كبير من وجود دكانٍ، أو متجر، لبيع وتركيب كل أنواع العطور، حاولتُ أن أحصلَ على أرقامٍ تُعينني في بحثٍ خاص، لأعرف سرَّ وَلِعِ الغزيين المحاصرين بالعطور وأنواعها، فلم أُفلح في الحصول على أرقام محددة. وبما أنني لم أعثر على أرقام دقيقة، لذا فسألجأ إلى تفسيراتي الخاصة!
لملف العطور في غزة نظيرٌ آخرُ يجب أن يضافَ إلى موضوع المقال، وهو ازدهار صالونات الحلاقة للرجال، والماكياجات للنساء، فما ينطبقُ على محلات العطور ينطبقُ أيضا على صالونات الحلاقة والتجميل!
ولصالونات التجميل ملفٌ ثالثٌ، يمكن أن يضاف أيضا إلى المقال، وهو ازدهار منتديات إنقاص الأوزان، لأن غزة تعاني من ترهُّل في أوزان عددٍ كبير مِن ذكورها وإناثها.
ويمكن أن نضيف إلى كل ما سبق ملفا رابعا، وهو ملف ازهار المعارض الفاخرة لتجارة السيارات الحديثة، فاستيرادها جارٍ على قدمٍ وساق، وبخاصة سيارات الدفع الرباعي، لتلائم طبيعة غزة (السفاري)!!
يُضاف إلى معارض السيارات، كثرةُ مكاتب التكسيات، وسيارات الأجرة العمومية على الرغم مِن صغر مساحة القطاع!!
سأبدأ تفسيري من أَثَرِ الإغلاق على نفسية الفرد الغزي، فالغزيُ يعيشُ حياتين، الحياة التي يراها عبر شبكات الإنترنت، وعلى شاشات الفضائيات، ويتمنى أن يحياها، أما الأخرى فهي واقعه المرير، ولكي يخرج من مأزق المقارنة، فإنه يلجأ إلى تقنياتٍ أخرى، فيوهم نفسَه بأنه يعيش أحلامَه، حتى في واقعه المرير، فروائحُ العطور تبعث فيه الأملَ والاستبشار.
أنا، أعتبرُ هذه الظاهرة مقاومةً سلبيةً مشروعة للواقع المرير، فهو حين يركبُ سيارة الدفع الرباعي، يظنُّ أنه سافر بها إلى الغابات والصحارى البعيدة، وتحدَّى الحصارَ والقهر بسيارة سفاري!
كما أنّ الحصار يدفع المُحاصَر إلى أن يستهلك طعاما أكثر من حاجته، ويُلجئه أيضا إلى أنعاش كل شهواته الحسية، فالطعام ليس متوفرا في كل الأوقات، لذا فإنه يعمدُ إلى تخزين واستهلاك أضعاف حاجاته، وهذا بالتأكيد سببٌ مباشر لترهل الأجساد!
أما الوجه الثاني، غير الجميل، فهي صورةُ هذا الإنسانِ العطريِ نفسِهِ عندما يخرجُ من صالون الحلاقة، هو نفسه يستقبل الشارع بالبصاق يمينا ويسارا، ولا يكتفي بالبصاق، بل يُلقي مخلفاتِه، بقيةَ سيجارته، ومنديلَ ورقه، والكوبَ الفارغ، في وسط الشارع العام، بلا حرج!
إن منظر الحدائق العامة يصيبُ المتابعَ بالغثيان والقهر، فلا يُعقل أن يفعل هذا الرجلُ العطريُ وأمثالُه حين يترك بقاياه في مكان جلوسه، على الرغم من أن سلّات القمامة لا تبعد عنه سوى أمتارٍ قليلة، وربما سنتمتراتٍ قليلة، لا يعقل أن يفعل هذا العطريُ بحديقته الجميلة مثلما فعل! مَن أراد أن يرى تلك الظاهرة الغريبة، عليه أن يزور حدائقنا العامة، في مساء أحد أيام العطلات، فإنه بالتأكيد سيرى أكوامَ مخلفاتِ الأسر والأفراد تُغطِّي أعشاب الحديقة الخضراء، أما عن أكوام أغلفة بذور البطيخ، وبذور عين الشمس والقرع، فهي سيدة المكان، وجالبةُ النمل، ويصعبُ إزالتها من الحدائق !!
وما هو أبشع من ذلك عندما ترى منديلَ ورقٍ، وعلبةَ عصير فارغة، وكوبا ورقيا، مملوءا ببقية الأيس كريم، قذفها السائقُ المُعطَّر ، صاحبُ السيارة الحديثة، الجديدة، الفاخرة، أو أحد أفراد عائلته، من شباكها المموَّه، وهي تسير بسرعة البرق، فتسقط بين قدميك، وتلوِّث ثوبَك، أثناء سيرك في الطريق!!
وأن ترى أكوامَ النفايات تحيطُ بحاويات القمامة الفارغة، ملقاةٍ على الأرض، وكأن الحاويات مجردَ علامات فقط لتدلَّ على مكانٍ غير محدود لإلقاء النفايات!!
هذا التناقض بين الوجهين يُثيرُ الأسئلة التالية:
ما دورُ النظام التربوي والتعليمي، في هذا التناقض؟
ما دور مئات جمعيات التوعية والتثقيف؟
أخيرا ، ما أثرُ تناقض الإنسان العطري على قضيته الوطنية ؟