التكفير قديماً وحديثاً

عبد الغني سلامة
حجم الخط
في الإسلام، ظهر منهج التكفير مع بدايات عصر الدعوة ذاتها؛ ثم تراجع قليلاً، حتى أنه اختفى في بعض المراحل، خاصة بعد أن هُزمت الخوارج وتمزقت فلولهم إرباً، وتكشَّفَ مدى بؤس فكرهم الإقصائي وفظاعة نهجهم التكفيري، ذلك النهج الذي لم يجلب للمسلمين سوى الدمار والخراب. والغريب، أن منهج التكفير عاد بقوة مؤخرا، مع عودة الخوارج الجدد، الذين لا يعرفون سوى حز الرقاب وتفجير الأسواق بمن فيها، كما نرى ونسمع كل يوم.
التكفير كوسيلة لنفي الآخر وإقصائه منهج قديم قِدم الإنسان؛ وهو لا يقتصر على التاريخ الإسلامي وحده؛ وقد ارتبط بالفكر الإنساني نفسه منذ أن وُجد، أي قبل ظهور الديانات السماوية، وتاريخ البشرية المضرج بالحروب والدماء يُنبِئُنا بأمثلة لا حصر لها من أشكال "التكفير"، الذي ظل سببا أو ذريعة للصراعات السياسية والاقتتال على السلطة، فمثلا، ما أن مات "إخناتون" حتى جاء "رعمسيس الثاني" ونكّل بكل أتباعه من الموحدين، بذريعة أنهم ابتدعوا ديانة جديدة، وكفروا بآلهة الفراعنة، ولم تقتصر حملة تنكيله على الأحياء، بل وصلت إلى مقابر وأضرحة الموحدين، كما قام الرومان في مرحلة لاحقة باضطهاد المصريين بسبب مذهبهم الديني، وقتلوا الآلاف منهم.
وحتى الحضارة اليونانية، رغم عراقتها وعظمتها، إلا أنها شهدت أشكالا من هذه العقلية المتزمتة؛ ففي العام 399 ق.م أجبرت محكمة أثينا أعظم فلاسفة الإغريق "سقراط" على تجرع السم، بتهمة إفساد عقول الشباب وطرح الأسئلة المثيرة للجدل!
وفي القرن الخامس الميلادي انطلقت في الإسكندرية موجة عنيفة من التكفير، وصلت ذروتها بمقتل العالمة الفيلسوفة "هيباتايا"، ثم شهدت المدينة موجة من الحروب الدينية بين اليهود والمسيحيين والوثنيين، كان كل فريق يكفر الآخر، ويسعى لتصفيته. ثم تسلل التكفير إلى داخل كل ديانة، خاصة عندما برزت بعض الحركات والمذاهب التي تعتقد أنها الوحيدة التي تفهم النص المقدس، والوحيدة صاحبة الامتياز في تمثيله. داخل اليهودية حاربت طائفة "الصدوقيون" الفريسيين (الذين ألّبوا على السيد المسيح، وأعطوا الفتوى بصلبه للحاكم الروماني "بيلاطس"). وبعد اليهودية انتقلت عدوى التكفير للمسيحية، التي تفرقت إلى عدة طوائف تُكفّر بعضها بعضا؛ وفي عصور الظلام شهدت أوروبا حقبة كاملة من التكفير مارستها الكنيسة بأبشع صورها، راح ضحيتها الملايين من البشر في المحارق وتحت المقاصل بتهمة الهرطقة والتجديف، فمثلاً كانت الكنيسة تكفّر كل الغجريات والمتصوفات والقابلات والمتداويات بالأعشاب، كما كفّرت من قبل "كوبرينكس" حينما قال إن الأرض ليست مركز الكون، وكفّرت "غاليلو" لأنه قال بكروية الأرض!! ناهيك عن الفظائع التي ارتكبتها محاكم التفتيش بعد سقوط الأندلس بحق اليهود والمسلمين على حد سواء.
وفي القرن السادس عشر الميلادي عمّت أوروبا موجة من الحروب الدينية والتعصب الكنسي لم يسبق لها مثيل، وتبارت المدن في إنشاء محاكم التفتيش التي كانت قد ابتدأت في إسبانيا، وبالرجوع إلى تلك الحقب المظلمة سنجد مئات القصص الفظيعة عن جرائم ومذابح جرت تحت ذريعة التعصب الديني.
وتاريخيا، يمكن القول: إن غالبية رجال الدين (من إغريق وفُرس وروم وفرنسيين وإسبان وألمان وعرب وأكراد..) نصّبوا أنفسهم حماة الدين وممثليه، وحراسا على الفضيلة، وقيّمين على الناس وأوصياء على عقولهم، ولكن ضمن رؤية جامدة ثابتة لا تتطور ولا تتغير، وتكفِّر كل من شذ عنها.
في الإسلام، وحسب مختصين بالإسلام السياسي؛ فإن مسلسل التشدد والتزمت افتتحه "ابن تيمية" وأضاف عليه تلميذه "ابن الجوزية"، ثم زاد عليه "ابن عبد الوهاب" في القرن التاسع عشر، وقد تواصل إلى يومنا هذا حتى صار بمثابة القاعدة الأيديولوجية للجماعات الأصولية، التي دعا لها "أبو الأعلى المودودي" ومن بعده "سيد قطب".
وحين سُئل أبناء الشيخ "بن عبد الوهاب" عن حُكم من سمع بدعوتهم ولم يجب، أجابوا: وأما من بلغته دعوتنا وأبى أن يدخل فيها، وأقام على الشرك بالله وترك الفرائض، فهذا نُكفّره ونقاتله". ولم تكن هذه فتوى عابرة بل هي من أصول فكرهم المعتمد على منهج الدم والتكفير..
وحسب الشيخ "الألباني" (وهو من أبرز شيوخ الوهابية)؛ فإن إتّباع سبيل المؤمنين أو غير المؤمنين أمرٌ حاسم"؛ "فمن اتبع سبيل المؤمنين فهو الناجي، ومن خالف سبيل المؤمنين فحسبه جهنم وبئس المصير"، وطبعا جهنم هي مثوى الكافرين، ويضيف "الألباني": "من هنا ضلت طوائف كثيرة، قديماً وحديثاً، حيث إنهم لم يلتزموا سبيل المؤمنين، وإنما ركبوا عقولهم، بل اتبعوا أهواءهم في تفسير الكتاب والسنة، ثم بنوا على ذلك نتائج خطيرة، من ذلك: الخروج عما كان عليه سلفنا الصالح".
وهنا، اعتبر "الألباني" أن كل خروج عن الالتزام بسبيل المؤمنين هو ضلال، وبالتالي هو خروج عن الدين، بل أنه استهجن استخدام العقل، وعبّر عنه بمصطلح "ركبوا عقولهم"، كما لو أن استخدام العقل جريمة! ويصل "الألباني" مداه في استنكاره استخدام العقل حين يصف الاجتهاد في تفسير الكتاب والسنة إتباعاً للأهواء! ويعتبر أن ذلك يؤدي إلى الخروج عما كان عليه السلف الصالح، ويبقى السؤال مشرعا: ما هي سبيل المؤمنين التي لا يجوز الخروج عنها، بل أن كل من يخرج عنها حسب "الألباني" جزاؤه جهنم وبئس المصير؟
ويتحدث "الألباني" عن الجماعات الإسلامية الأخرى، قائلا: "هؤلاء قد يكونون في قرارة نفوسهم صالحين، وقد يكونون أيضاً مخلصين، ولكن هذا وحده غير كاف ليكون صاحبه عند الله عز وجل من الناجين المفلحين، لابد للمسلم أن يجمع بين أمرين اثنين: بين الإخلاص في النية لله وبين حسن الإتباع للنبي". فلا يكفي عنده أن يكون المسلم مخلصاً، بل لا بد بالإضافة إلى ذلك أن يكون منهجه منهجاً سوياً سليماً، ونفس السؤال يتكرر: ما هو المنهج السوي السليم الذي يضمن عدم خروجه من الإسلام؟
خطورة هذا الطرح أنه يكفِّر أي جماعة لا تشبههم، حتى لو كانوا مسلمين، ويتوعدهم بالنار والجحيم، فإذا كانت هذه النظرة تجاه عموم المسلمين، فكيف ستكون تجاه الستة مليارات إنسان من أتباع الديانات الأخرى وغير المتدينين؟ وكيف ستكون العلاقة معهم؟