لم تكن المرة الأولى التي أقرأ فيها كتاب يوميات الاجتياح والصمود للصديق الروائي القدير يحيى يخلف، فقد سبق هذه المرة أن قرأته مرتين، الأولى في غزة عام 2003 والثانية في بريطانيا إبان الحرب على غزة في كانون أول 2008. رغم ذلك وأثناء ترتيبي لمكتبتي الشخصية، أطلت اليوميات مجددا بعفوية من بين الكتب، فبادرت لقراءتها للمرة الثالثة مدفوعا برغبتي في استدراج الذاكرة ولو قليلا إلى مقعد الحاضر.
* * *
لا شك ان اليوميات والسير الذاتية تشكل رافدا أساسيا من روافد الإبداع الأدبي لما تحمله من مشاهدات وتجارب شخصية يتقاطع فيها الفردي مع العام وتتقاطع فيها الرؤية الذاتية مع السياق التاريخي والسياسي والثقافي. لهذا نسعى لقراءة اليوميات في محاولة للتصالح بين الأزمنة، أو للبحث عن جسور بين التجارب الفردية والأمكنة، علنا نخلق حالة من التوازن في علاقتنا مع الوقت. هذا ما حدث معي في كل مرة أعيد قراءة ذاكرة للنسيان لمحمود درويش والتي نجحت بتقديري في أن تكون بيانا أدبيا قادرا على الصمود في مواجهة ضجيج الاحتلال الاسرائيلي المدجج بصور الموت. وهذا ما حدث أيضا في أعادة قراءة كتابي هشام شرابي، صور الماضي والجمر والرماد والتي استعاد فيهما شرابي يافا وبيروت في سياق البدايات الفكرية والتجربة السياسية والأكاديمية. كذلك الأمر في العلاقة مع المكان كما في البئر الأولى وشارع الأميرات لجبرا ابراهيم جبرا وحديثه عن بيت لحم وبغداد، أو في العلاقة مع الراحلين والأمكنة كما في مرايا الغياب ومدن فاتنة وهواء طائش لمحمود شقير ، وخبط الأجنحة لأمجدناصر، أو في إعادة كتابة تجربة الحياة كما في بين الوطن والمنفى لشفيق الحوت، أو عن أنيس صايغ لأنيس صايغ أو الرحلة الأصعب لفدوى طوقان أو انثيال الذاكرة لفتحي البس.
كأننا في كل مرة نعيد القراءة، نضيف اكتشافا جديدا لجزء من عالم الكاتب أو بعد إضافي في تجربة العلاقة مع المكان والزمن.
* * *
إن إعادة انتاج المكان من خلال المذكرات والسير الذاتية لا تقل أهمية عن ابتكار حياة سردية في رواية أو قصة أو مسرحية. ربما لهذا تشكل المذكرات والسير واليوميات حيزا معرفيا هاما في الانتاج الثقافي والمعرفي كونها تحتل تلك المساحة المميزة بتقديري بين التاريخ والسرد، بين التجربة والرؤية، بين الذاتي والجمعي.
لعل هذا يفسر أيضا اهتمامي الشخصي في الحرص على متابعة وقراءة المذكرات والسير الذاتية مدفوعا بذات الرغبة في اكتشاف تفاعلات الزمن مع المكان. هكذا فعلت مع يوميات خليل السكاكيني وواصف جوهرية واللتان تعدان من أهم تجارب اليوميات الثقافية والاجتماعية والسياسية لجهة حضور القدس في سياق التاريخ والثقافة الفلسطينية.
إن تعدد كتابات السيرة الذاتية واليوميات أضاف زخما للهوية الوطنية، وشكل حالة من حالات المقاومة بالذاكرة والسرد، هذا الزخم أتاح لي بشكل شخصي فرصة تعزيز حضور الرواية السياسية والاجتماعية والثقافية الفلسطينية في تكويني المعرفي في سياق قراءة حركة المقاومة الفلسطينية سياسيا واجتماعيا وثقافيا، فمن دفاتر فلسطينية لمعين بسيسو، إلى سأكون بين اللوز لحسين البرغوثي مرورا برأيت رام الله لمريد البرغوثي، خارج المكان لادوارد سعيد، كطائر على سنديانة لكمال صليبي، غربة الراعي لاحسان عباس. وغيرها الكثير من التجارب الإبداعية لكثير من المبدعين والمبدعات، تجسدت حياة موازية، مستمرة في مفرداتها اليومية رغم كل حيل الغياب.
* * *
يمكن اعتبار الاهتمام بقراءة أو إعادة قراءة اليوميات أو السير الشخصية مدخلا إضافيا للتلصص على زمن مغاير نبحث فيه عن شيء ما من الجغرافيا أو التاريخ أو الحياة التي يسردها الكاتب أو الكاتبة، شيء ما هو مزيج من كل شيء، ولكي نقنعنا بأن لدينا القدرة على القفز بحرية بين حواجز الزمن. أو هكذا نظن أو هكذا نريد، نندفع لتتبع مسار الأحداث والشخصيات الواقعية، كأننا في حالة حوار متصل لم يتأثر بعوامل الزمن السياسية والاجتماعية والثقافية.
ربما لهذا كله عدت لقراءة صور المكان أثناء اجتياح الضفة الغربية في آذار 2002 كما التقطها يحيى يخلف بحس الروائي الباحث عن مفارقة التفاصيل كي يصنع سردا يحمل فيه رؤيته الذاتية.
لم تكن اليوميات بتقديري تمرينا سرديا يواكب الأحداث بقدر ما كانت شهادة أدبية خاصة ساهم في صياغتها يحيى يخلف لتبقى بعد ذلك الوقت قادرة على البوح، هذا البوح الذي يطل من ثنايا المكان رغم تبدل الكثير من الصور.
* * *
تذكرني يوميات يحيى يخلف عن اجتياح الضفة الغربية في آذار 2002 بيوميات سعاد العامري. غير أن العامري في كتابها شارون وحماتي اتخذت مسارا سرديا لا يخلو من السخرية وهي تعيد كتابة الذاكرة والأحداث من خلال التجارب اليومية أثناء الاجتياح، رغم هذا التقت العامري مع يخلف في الحفر عميقا في صور علاقة الفلسطيني مع المكان.
في يوميات الاجتياح والصمود ليحيى يخلف كان الفلسطيني يطل من روايته اليومية للأحداث شاعرا وسياسيا وكاتبا ومقاتلا ومعلم موسيقى وقصاب وراعي غنم. كما كان يطل طفلا ورجلا وشابا وامرأة وفتاة أمام مفردات الوقت. تلك الملامح المتعددة للفلسطيني في الاجتياح والتي رصدها يحيى يخلف من شرفة بيته أو أثناء تجواله في رام الله أو زياراته للأصدقاء أو مكالماته الهاتفية، جعتله يقدم صورة من صور المكان دون إفراط في الأمل أو اليأس.
ألهذا تنجح اليوميات السردية عادة في إزاحة بعض من الضباب الكثيف عن وجه الذاكرة؟
ربما...
* * *
في تجربة يحيى يخلف، أعتقد أن رؤية الروائي هي التي قادته لصياغة هذه الشهادة وقدمت خلاصة مركزة لتلك الأيام البعيدة من شهري آذار ونيسان 2002. كأنه السرد انعكاس صورتنا على تجربتنا كي نرى ملامحنا الجمعية أكثر وضوحا، نكمل من خلاله بقايا الصورة الغائبة. كأن نعيد رؤية الشهيد زياد أبو عين بنفس الروح التي ميزت حضوره بيننا، ووجه محمود درويش بعد اقتحام مركز خليل السكاكيني. كأن نشعر بنفس الاحتقان الذي شعر به معلم الموسيقى الأستاذ جاك لحام وهم يقتحمون بيته في دوار الساعة في رام الله. نفس الغضب الذي شعر به ماهر النقيب من مخيم عسكر وهم ينتزعوه من كرسيه المتحرك بوحشية دموية ليعتقلوه من منزله في المخيم. كأن نشعر باختناق وجه أبو نزار، صخر حبش وهم يقتحمون مكتبه في عمارة النتشة بالقرب من دوار المنارة في رام الله. الإصرار في وجه الشهيد أبو جندل في مخيم جنين. والكبرياء في وجه مروان البرغوثي لحظة الاعتقال.
* * *
في يوميات الاجتياح والصمود يعيدنا يحيى يخلف إلينا بلغة سردية هادئة رغم الغضب الظاهر بين الكلمات لنقف مرة أخرى أمام وجوهنا البعيدة في رام الله وجنين ونابلس وبيت لحم، نشاهدنا في قلق الأب وجرح المقاتل ونزف الحزن.
كأن اليوميات الصادرة عام 2002 عن دار الشروق ما زالت قادرة على البوح رغم مرور 14 سنة على اجتياح الضفة الغربية في آذار- نيسان 2002.