عندما يصير الوطن، أي وطن، «شركة استثمارية»، تُشّرع الأبواب لكبار المستثمرين، وتُفتح النوافذ أمام صغار عالم الاستثمار، فتنهال عقود مقاولات الباطن، كما يسميها رجال بزنس متعددو الأجناس والأعمال، يفيدون منها في تبييض سواد الأموال. عندما يصبح هذا هو حال الوطن في الحالة الفلسطينية، على وجه التحديد، رغم أنه لا يزال مشروع كيانٍ يحلق على بساط هو قبض الريح، وعندما يحصل هذا بموافقة ودعم من يُفتَرض فيهم أن يكونوا الأمناء على قضية زعم خطابهم في كل مناسبة أنهم بالأرواح يفدونها، فإذا بكل منهم يروح في حال سبيله، يروِّح عن نفسه إذ يجوب العواصم ويحل بأفخم الفنادق، باحثًا عمّن يموّل ويسلّح، مقابل تسويق سياسات المُمَوّل، وقد مُهِرتْ بخاتم أنبل ظاهرة، الاسم الذي حملته بحق، يوم كان المنطلق مقاومة المحتل، قبل أن يتحول سوق بيع وشراء، ثم تتفرع عنه وتنشق فروع تتاجر بأسهم فلسطين وسنداتها، وتتبع أكثر من «شركة استثمارية» تستثمر في الاتجار بالقضية ذاتها.
عندما يصل الوضع الفلسطيني إلى هذا الحال، أعجبٌ أن يكتنف «الحذر والغموض» أي حديث حول «جولة جديدة لتحقيق المصالحة الفلسطينية»، وإذ إن نتائج «الجولات السابقة».. «لم تحقق إلا المزيد من تعميق الانقسام وإطالة عمره»، أعجبٌ أيضًا أن يصل «الرأي العام الفلسطيني إلى حالة من اليأس جعلته يدير الظهر للحكاية كلها». ما أوردته أعلاه بين أقواس تضمين مُقتبس من مقالة نبيل عمرو (عدد «الشرق الأوسط» - الخميس الماضي). بدءًا، يهمني التأكيد هنا أن ما سيرد أدناه ليس ردًا أو تعقيبًا، بل هو استئناف لما بدأت في هذه المساحة بشأن كوارث الانقسام الفلسطيني. بالتأكيد، في هذا السياق، ثمة ما يبرر وصول قيادي من حركة «فتح» يحمل زخم تجربة نبيل عمرو النضالية، وخبرته السياسية، وسجل مواقفه الإصلاحية، درجة من التشاؤم تلفت النظر، على رغم احتفاظه بهامش تفاؤل في المقال ذاته: «الفشل السابق يجب ألا يلغي أمل النجاح اللاحق».
صحيح بكل تأكيد، لكن كيف يمكن للقيادات المنقسمة على ذاتها استعادة ثقة رأي عام فلسطيني وصل إلى «حالة من اليأس جعلته يدير الظهر للحكاية كلها»؟ قبل أن ننسى، دعونا نتذكر أنها حكاية وجع انقسام الحال الفلسطيني على نفسه، فما بال القيادات الفلسطينية تتيح لشياطين انقسامها على أنفسها أن تنسيها قدسية قضيتها، فتتخذ سبيلها في بحار أو أنهار سربا، وتتسلل تارة نحو سواحل شواطئ، وأحيانا إلى أدغال قفار؟
ما الحل إذن، كيف يمكن ألا يدير الرأي العام الفلسطيني الظهر لأشد حكايات آلامه وجعًا؟ الجواب، بتقديري، هو أن تحل القيادات المنقسمة، جميعها، عن ظهور الفلسطينيين، كلهم أجمعين، في الداخل والخارج، فترحل باحترام، ومن دون أي إساءات، لعلها ترتاح من أعباء تجاوزتها زمنًا ومقدرةً، وتريح غيرها من عبء المعاناة بسبب تصرفاتها. ومع ملاحظة أن المسألة هنا ليست رهينة أعمار، يبقى جزء أساسي من الحل أن يمسك جيل الشباب بزمام المبادرة، فيستعيد القضية من جيوب كلّ مَنْ أحالوها «شركة استثمارية»، ويمنع أن يتبوأ كلّ من هو، أو هي، موضع أية شبهة، مركز صنع أي قرار فلسطيني، أو تنفيذه، وألا يسمح لمن يحكم بالهوى، ويقيس وفق تضخم «الأنا»، سواء «أنا» الحزب والحركة، أو الجبهة والجماعة، أو الذات والمؤسسة، أن يُملي المواقف ويرسم الطريق. ذلك أن تضخم «الأنا» نوع من الدكتاتورية يلبس أكثر من قناع. الأرجح أن ذلك هو السبيل ليس فقط لتحقيق مصالحة حقيقية، بل لأجل البناء من جديد، على أسس محصنة ضد كل بيع وشراء باسم فلسطين، وطنًا وقضية، مقاومة ودولةً. عندما يتذكر أولو أمر التنظيمات الفلسطينية أن فلسطين هي الباقية وهم فانون، لعلهم يقدمون قضية وطنهم على أنفسهم.
وأختم بالقول إن استفتاء عضوية بريطانيا الأوروبية غدًا، كان جديرا بالكتابة عنه اليوم، وكذلك جريمة اغتيال جو كوكس، النائبة العمالية الشابة التي تركت وراءها طفلين، وكان قلبها يحمل حنانًا تجاه أطفال سوريا ضلّ عنه قلب بشار الأسد وكل ممارس للقتل على أرضها، وهي جريمة حبس معظم عرب بريطانيا ومسلميها أنفاسهم، الخميس الماضي، تحسبًا أن يكون القاتل محسوبًا عليهم وعلى إسلامهم السوي، وتنفس الجميع بارتياح إذ لم ينتسب ذلك الشر إليهم. قد تتاح فرصة الرجوع إلى الموضوع، الأربعاء المقبل.
عن الشرق الاوسط