أظهرت الجرائم التي ارتكبها تنظيم "داعش" في أحياء مخيم اليرموك المحاصر، حجم الفاجعة التي يواجهها السكان المدنيون داخله؛ فهؤلاء يرزحون منذ سنوات تحت حصار النظام السوري وأعوانه، قبل أن يختار "داعش" الانضمام إليهم كي يشاركهم في مقتلة أهل اليرموك.
ويواجه أهل المخيم أوضاعاً مأساوية بسبب الحصار المتواصل منذ أكثر من عامين، والذي يتسبب بانقطاع الكهرباء والماء وانعدام المواد الغذائية وموت العشرات جوعاً. ولا يتعرض أهالي المخيم للحصار فقط، بل يشكّلون أهدافا يومية لصواريخ أرض أرض التابعة لقوات النظام، والتي دمرت أحياء بكاملها وغيرت ملامح اليرموك. ويقول أبو أحمد، من سكان المخيم، "لم نعد نرى سوى ركام الأبنية ونستنشق غبار الأمكنة".
ويعيش اليوم مخيم اليرموك حالة حصار مزدوج، من جنوبه وشرقه، حيث تسلل "داعش"، ومن شماله، حيث تنتصب حواجز النظام والمتعاونون معها، وسط قصف من الطرفين ومنع كلّي لدخول أي نوع من الاحتياجات الإنسانية الضرورية من كل جهات المخيم.
وفي ظل هذا الحصار المزدوج، انهارت مختلف أشكال الدعم. ويقول أبو محمد المتطوع في المجال الإغاثي، لـ "العربي الجديد"، إن "آلية العمل المتصلة بأعمال إغاثة المخيم، والتي سبقت هجوم "داعش" و"النصرة"، كان طبيعياً أن تقود إلى هذا الوضع الكارثي؛ إذ إنّ مفاوضة البشر على دخول رغيف الخبز ورشفة الماء كانت كافية لتشي بما هو قادم"، متسائلاً "ماذا تفيد كل مبادرات المصالحة التي روج لها سابقاً في ظل هذا الحصار القاتل". وأضاف "اليوم نتحدث عن قرار أُخذ بتدمير ما تبقى من المخيم، ولجم ذاكرة البشر ووضع الضحية والجلاد داخل المخيم في سلة واحدة".
ويتخوف العاملون المتطوعون في المجال الإغاثي بعد سيطرة "داعش" على أجزاء كبيرة من المخيم من تفاقم الأوضاع الإنسانية، وترهيب وملاحقة التنظيم لهؤلاء المتطوعين بحجة أنهم يتبعون جهات معينة. ويصف الناشط في الهيئة الخيرية داخل مخيم اليرموك، أبو عمر، الوضع الإنساني بأنه صادم وكارثي بكل مقاييس، مشيراً لـ "العربي الجديد" إلى "وصول (داعش) إلى محور مشفى الباسل ومحيط مسجد عبد القادر الحسيني، وهي نقطة كانت توزّع فيها المياه وأصبحت الآن مقطوعة كلياً، فضلاً عن حظر التجوّل الطوعي الذي مارسه الأهالي خوفاً على حياتهم، بعد النداءات التي سمعوها عبر مكبرات الصوت للدلالة على كل شخص ينتمي لأكناف بيت المقدس أو تسليم نفسه، وإعلان "التوبة" خلال ساعات، والا فإن مصيره الموت".
وحول الوضع الصحي في المخيم، يقول أبو عمر إن "هناك انعداماً في المواد الطبية، وليس نقصاً، لأن كل ما دخل للمخيم لا يتعدى الإسعافات الأولية، وكل الأدوية التي يحتاجها السكان كانت بالأصل ممنوعة من الوصول باستثناء أدوية مرض القلب والضغط والسكري والسرطان. وحتى حليب الأطفال غير موجود، وذريعة تقطير المساعدات مع الحصار القاتل كانت تشير دائماً إلى السماح فقط بموت من بقي في المخيم".
وناشد أهالي مخيم اليرموك الصليب الأحمر الدولي لإجلاء جرحى المخيم وتوفير العلاج لأبنائهم. وذكرت "مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية" أن أهالي مخيم اليرموك وجهوا نداءات استغاثة إلى الصليب الأحمر الدولي طالبوه فيها بالتدخل العاجل لإجلاء جرحى المخيم وتوفير العلاج لهم، وذلك بسبب توقف الخدمات الطبية في اليرموك عن العمل بشكل كامل. كما أفادت المجموعة أن مخيم اليرموك يعيش كارثة إنسانية، ولا يوجد أي خدمات طبية داخل المخيم، في ظل وجود العشرات من الجرحى نتيجة القصف والاشتباكات المستمرة.
ودعت المجموعة جميع الهيئات الدولية، وفي مقدمتها الصليب الأحمر للعمل على إيصال المساعدات الطبية وتأمين العلاج للجرحى، وإنقاذ حياة أكثر من 3500 طفل داخل المخيم لا يجدون ماء أو غذاء. يأتي ذلك وسط نزوح عدد كبير من أهالي المخيم نحو المناطق المحاذية له (ببيلا - بيت سحم - يلدا).
ويحذّر أستاذ للتاريخ ويدعى عفيف، من مجزرة بحق الفلسطينيين، ويقول لـ "العربي الجديد"، إن "هذا التحذير ليس تهويلاً، بل الواقع يشير إلى نية التخلص ممن بقي في اليرموك". ويضيف "نحذر من مجزرة آتية على من تبقى داخل المخيم". وتساءل "هؤلاء (في إشارة إلى داعش) يدعون الناس إلى التوبة، عم نتوب؟ وما الذي فعلناه كي يكون مصيرنا فاجعاً لهذه الدرجة؟ النساء تختطف والأطفال يبكون جوعاً".
وتوجّه عفيف بحديثه إلى القيادات الفلسطينية، تلك التي وصفها بـ "المتآمرة على شعبها ومخيمها"، وتلك "الصامتة والشامتة"، بما يجري داخل المخيم، وتراقب "الدمار الذي لحق بمكاتبها السابقة وشعبها الذي تم التخلي عنه". وقال لهؤلاء "ليدققوا برقاب أبناء شعبهم المقطوعة والأشلاء المتناثرة، بفعل القصف بالمدفعية والصواريخ من الطرف الآخر المحاصر للمخيم. يا أخي حتى نادي غسان كنفاني للشعبية تعرض للضرب"، في إشارة إلى اقتحام "داعش" مقرّ ناد ثقافي تابع لـ "الجبهة الشعبية" بعد اتهام القائمين عليه بالكفر.
وفور سيطرة "داعش" على المخيم، بدأ بعمليات قطع الرؤوس التي أرعبت المدنيين داخل المخيم، حيث قام بإلقاء رؤوس ثلاثة أشخاص في شارع المدارس وسط المخيم، وهي المنطقة التي كانت تشهد حركة إغاثة للمهجرين السوريين في عام 2012. وترافق ذلك مع عملية اعتقال 50 شخصاً دفعة واحدة في اليوم الأول لبدء هجوم "داعش" داخل المخيم. وأحدث استخدام العنف وإشاعة جو من الترهيب والملاحقة تأثيراً بالغاً حتى لدى أكثر الناس مسالمة من المدنيين وعمال الإغاثة.
وأثناء جولة لـ "العربي الجديد" داخل اليرموك، كانت الجدة أم قصي تقف عند تقاطع شارعي صفد والمدارس وتصرخ بأعلى صوتها "يا ابني عم نموت ميت موتة باللحظة الوحدة صواريخ وقذائف، وفوق ذلك لا شيء لديك لتبل ريقك به لعابنا جف لم نعد نقوى على الكلام. تعال وانظر إلى وجع المسنين المرضى والأطفال الجياع كرهت شارع نسرين وساحة الريجي (أماكن توزيع المساعدات سابقاً)".
أما جارتها أم كامل في شارع صفد، فراحت تصف حال المخيم بالقول: "فش مي (أي لا يوجد مياه) ولا حليب لا عظام لدينا تسند هشاشتنا، القهر يلاحقنا والموت جوعاً يطاردنا، لا والأحسن بالأخير نموت تكفير وبعدها تكبير، كل هذا ماشي يا ابني لكن الذي حز بنفسي مثل غيري هو قتلنا بهذه الطريقة من الخذلان غير المسبوق في تاريخنا، صار عمري ستة وستين سنة لم اسمع أو أشهد لحظات من العار كالتي تحيط بنا الآن، أين الفصائل ودورها في حماية شعبها. وينها الأمم المتحدة والعالم.