يعلق الأسير السابق المحرر جمال أبو محسن، على استشهاد محمود بدران بالقول: "الأسير المحرر رأفت بدران يتحرر من الأسر بعد سنوات طوال لينجب طفلا ليستشهد... رحم الله ابنك أخانا رأفت... المجد للشهداء".
كما كل شهيد طفل تقريباً، ما إن يرتقي برصاصهم، حتى تنفجر معالم شبكة الاستشهاد والألم، والرغبة في الحياة.
وأنا أستعد لكتابة هذا المقال، وضعت بخط يدي ومن الذاكرة، على ورقة، أسماء أطفال شهداء "سقطوا" خلال العامين الماضيين؛ نديم نوارة، محمد أبوظاهر، ليث الخالدي، هديل عواد، أشرقت. ثم وضعت ملاحظة عن شهيد لا أذكر اسمه، إذ كتبت "الذي يريد أن يدرس في الجامعات الأميركية".
تأثر جمال أبو محسن بسيرة أحد أقاربه وأساطير مدينتهم "طوباس"، الحاج حسن (عبدالإله محمد أبو محسن) الذي عرف أيضاً بالحاج بوتاس، لقصفه مصانع البوتاس الإسرائيلية، ودخل عشرات الدوريات ضد الاحتلال، ليستشهد العام 1976 وهو يفك حصار مخيم تل الزعتر. وصور الحاج حسن تظهره ببدلة أنيقة، وربطة عنق، ووسامة، ألم يكن يلعب الطائرة وكرة السلة، ومدرساً ينشر العلم في جيزان في السعودية، قبل التحاقه بالثورة.
وجمال درس يوماً واحداً فقط في جامعة الخليل، قبل اعتقاله لربع قرن. وعندما قابلته أول مرة إثر تحريره، حدثني عن أدائه آخر امتحان للماجستير، بإشراف د. مروان البرغوثي، في المعتقل صباح خروجه. وسألني عن إتمام التعليم، والانخراط في التدريس كما يحلم.
كنتُ قبل أشهر، أقابل شاباً تقدم لمنحة تدريبية طُلب مني المساعدة في اختيار مرشحيها. وكما يحدث كثيراً، يدخل حديث الاستشهاد لكل شيء. فيحدثني عن زميلةٍ له في العمل استشهد ابنها مع صديقه، ويبلغني بحيرة الأم والعائلة؛ ليلة الاستشهاد كان الفتى يجادلها في نوع حذاء الرياضة الذي يريده، ويخبرها وهو من عائلة "متعلمة جداً"، أنّه يريد الذهاب لجامعة أميركية للدراسة. وفي اليوم التالي ذهب للعب كرة القدم، ويعود "مستشهداً".
قبل أسابيع، جلست مع رأفت بدران، نتعرف إلى بعضنا، ونشرب القهوة، على رصيف مقهى "قمح" في رام الله التحتا، ونتحدث عن رغبته إتمام دراسته العليا، وعمله الدبلوماسي بعد خروجه من خمسة عشر عاما من الاعتقال.
لم أكن أعرف أنّ المناسبة التالية التي توجب أن أتصل بها مع رأفت ستكون استشهاد ابنه.
"ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا اليها سبيلا".
جميلة هي بيت عور التحتا؛ أشجارها جميلة، على طريق القدس-تل أبيب، وأحد أبنائها فاروق الشامي، كان مناضلا سياسياً، هرب للولايات المتحدة لأنّ لديه تأشيرة دخول في الثمانينيات، وهناك صار مصفف شعر مشهورا، يدرس في وقت فراغه الكيمياء، ليطور صبغات شعر من دون مواد كيماوية، ويصبح مخترعاً، ويؤسس شركة عالمية لمواد التجميل، ويصبح الراعي لمسابقة ملكات الجمال في الولايات المتحدة، ويعود إلى فلسطين. ولأنّ مدرسة "الفرندز" الشهيرة في رام الله، قدمت له منحة لأنه لم يكن يملك تكاليف الدراسة، وتخرج منها العام 1961، فإنّه بعد ثرائه ساعدها بمليوني دولار كوقفية، عدا عن إنشائه كلية جامعية للفنون الجميلة في جامعة القدس، وسوى ذلك.
رغم جمال بيت عور التحتا، فإنّ محمود ابن رأفت بدران، ذهب منها يوم الثلاثاء الماضي، بعد الإفطار، ليروي حبه للحياة؛ للسباحة في بركة بقرية بيت سيرا القريبة. وفي عودته ليلاً، لعله كان يسعى لطعام السحور، قتله الجنود، ثم أعلنوا أنّه قتل عن طريق الخطأ.
عندما زرت بيت الشهيد نديم نوارة، اكتشفت حبه لقبعات كرة السلة والبيسبول. ولفتني أنّ أم الشهيد ساجي درويش تحدثت للإعلام أنه استحم ولبس طاقيته فوق شعره المبلول وخرج واستشهد. وكتبتُ "لماذا ترتدون القبعات"، متذكرا فتيانا يحبون الحياة والقبعات.
أنكر الاحتلال أنه قتل نديم، متعللا بعدم العثور على الرصاصة. وبعد حين، وجد أهله الرصاصة في حقيبة المدرسة التي كانت على ظهره. وأجمل صور محمود رأفت بدران حاملا حقيبة ظهره.
ما أجملهم بحقائب ظهورهم.
الحاج حسن ذهب من التعليم للثورة؛ وجمال من أول يوم وحتى ربع قرن من الاعتقال يخرج للتعليم؛ ورأفت بدران من الأسر للتعليم والدبلوماسية، وليستشهد ابنه؛ ونديم قُتِلَ حاملا حقيبته؛ وفاروق من النضال للتجميل والجمال للعودة للبناء والتعليم.
ويقتلون الحياة إن هم وجدوا سبيلا، فماذا نحن فاعلون؟
عن الغد الاردنية